جمعة بوكليب
عقب الانتهاء من الاحتفال بنهاية عام وقدوم آخر، ليس أسهل على العالم من النسيان والعودة إلى سيرته الأولى، وكأن شيئاً لم يكن. الضجيجُ الاحتفاليُ بنهاية عام يكون عادةً مصحوباً بضجيج مؤقت، تعبيراً عن بهجةٍ وحبور. ألا أنّه قصيرُ المدى، سرعان ما يختفى، مفسحاً الطريق أمام عودة ضجيج آخر، نسميه الواقع اليومي المألوف، وعودتنا إلى ضجر الروتين، ومواصلة معركتنا مع مصاعب الحياة، وما تنصبه في طريقنا من كمائن.
العلاقةُ بين البشر والزمن، رغم وضوحها ظاهرياً، شديدة التعقيد. وليست جديدة. فالانسان بيولوجياً لا يستطيع قهر الزمن. مما يعني أن الانسان محرومٌ من نعمة الخلود. الخلودُ صفة اختصت بها الآلهة. لكنّ الإنسانَ بطبعه يكره الموت، ويهفو إلى امتلاك ما تمتلكه الآلهة. والزمنُ، مثل وحش هائل، لا يتوقف عن مطاردته وتهديده بالفناء. والانسان يدرك ذلك، ويحاول عبثاً تجاهله فلا يستطيع. ولأن الحياة قصيرة ولا تحتمل التوقف، لا تسمح له بالانتظار والاكتفاء بايجاد حل لمعضلة الفناء والخلود، رغم أهميتها. ولكي يعيش ويواصل الحياة عليه أن يعمل ليكسب قوته. بعضنا يكتفي من الحياة بما يتاح، ويرفع راية التسليم مبكراً. وبعضنا الآخر يقاوم الموت بالرفض، ويطلب المستحيل.
والفنُّ أحد أهم ألاسلحة التي اخترعها الانسان بهدف التحايل على الموت، وامتلاك الخلود. الفنُّ عابرٌ للزمن، وعابرٌ للاجيال. والفنانون، مهما اختلفوا وتمايزوا، يعرفون أنهم جميعاً لكي يتجاوزا محنة الموت، لابد لهم من تشييد الجسر الذي يمكنهم من عبور نهر الموت إلى ضفة الخلود.
أحتاج الانسانُ زمناً لكي يكتشف الفن. والأرجح، أن الاكتشاف تمّ من خلال بحثه عن ما لا يعرف مما تواجهه به الطبيعة، ومن قلقه مما لا يرى ويخاف. اكتشف الانسان الفنَّ ليكون أداة توسل، وفي ذات الوقت، جسراً يصله بغيره من البشر، ووسيلته في الربط بين المرئي واللامرئي. بين البشري الفاني والآلهي الخالد.
نهايةُ عام وبدايةُ آخر، أمرٌ تعوّده الكائن البشري. والاحتفالُ محاولة احتيال على الزمن والموت معاً. الاحتفالُ بنهاية عام وبداية آخر، في رأيي، ليس فرحاً بعام انقضى وضاع، وليس بهجةً بعادم قادم. بل احتفالٌ باللحظة الوقتية المعاشة. احتفال بالحياة التي يدرك الكائن البشري أن الموت، يوماً ما، سيحرمه منها. أي حرمانه من الخلود.
الأديانُ السماويةُ جاءت لتصنع للانسان مخرجاً، بالوعد بحياة أخرى أبدية. الحياةُ الأخرى الأبديةُ، على عكس الحياة الدنيا الفانية، تمثلت في جنّة ونار. الأولى مخصصة للأخيار منهم فقط. والثانية للأشرار. وبذلك، انقسمت الحياة الدنيا إلى ضفتتين متقابلتين. الخيّرون مقابل الأشرار. العدلُ مقابل الظلم. الحبُّ مقابل الكراهية. الجمالُ مقابل القبح. النورُ مقابل الظلام. وفي الحرب الدائرة بين الضفتين، كان دور الفنّ أن يعزز ويدعم قوة ضفة الخير والعدل والحب والجمال والنور. وكان على الفنانين ان يقودوا المسيرة الانسانية في سعيها لهزيمة الموت والفوز بالامتياز الآلهي: الخلود. المعركةُ تلك أبدية. أسلحةُ الخير تتطور وفقاً لتطور أساليب الشر. وهذا يعني أن الفنَّ لكي يواصل حضوره الفعال لزم عليه تطوير أدواته لكي يتمكن من كشف أساليب الشر المتطورة، والحدّ من اضرارها. هدفُ المعركة، بين الخير والشرّ، هو أيهما يتمكن من الاستحواذ على النفس الانسانية. ووظيفة الفن في تلك المعركة المتواصلة هي أن يوطد مواقعه في القلب والنفس والروح والعقل والوجدان، من دون توقف، ليس بهدف هزيمة الشرّ، فذلك أمر يقع في خانة المستحيل، بل محاولة التقليل، ما أمكن، مما يحدثه الشرُّ في النفس الانسانية من أضرار وخسائر، وفي أعداد الضحايا.