ما اكثر أولائك الذين يدلون بدلوهم ويتبرعون بآرائهم فيما يجري على الساحة الاقتصادية في ليبيا اليوم ، بل حتى على مستوى الاقتصاد العالمي في بعض الأحيان ، خصوصا في مطلع كل عام ، والعام المالي الجديد 2020 الذي يشكل مجالًا خصبًا للتوقعات والتنبؤات، وقد وصل الأمر إلى توقع كساد عالمي كبير خلال هذا العام .
وبالرغم من انه لا يوجد ما يمنع أيا كان من ان يدلي برأيه حول أية قضية اقتصادية، لا سيما وان الناس اليوم لا يهتمون بخلفيات ومؤهلات من يقومون بالتحليل والتوضيح والتعليق ومصدر معلوماتهم، ممن وجدوا في القنوات الفضائية منابر للتعبير عن آرائهم، أو من خلال غرف وصفحات التواصل الاجتماعي و منتديات الدردشة ( مقاهي الإنترنت ) الا ان السؤال الذي ينبغي طرحه بقوة هو على ماذا يؤسس هؤلاء قراءاتهم وتنبؤاتهم واستنتاجاتهم من مجريات ووقائع الأحداث الاقتصادية والمالية ؟ وماهي حجية ما يتوصلون اليه ويدلون به ؟
منهجياً التوقعات التي يجريها الاقتصاديون من ذوي التخصص حول القيم المستقبلية لبعض المتغيرات الاقتصادية، مثل معدلات التضخم ومعدلات البطالة ومعدلات النمو الاقتصادي أو الأزمات الاقتصادية إلى آخره، تؤسس على تحليل للسلاسل الزمنية لبيانات تلك المتغيرات لعديد السنوات أو الشهور أو الفترات الزمنية المتعاقبة ، التي تتضمن وتعبر عن سلوك تلك المتغيرات عبر الزمن، وتقييم للمركز المالية لمختلف المؤسسات المالية، وتقييم مدى الالتزام بالمعايير الرقابية الاحترازية الجزئية والكلية.
وهناك شروط ينبغي توفرها في البيانات التي يستخدمها الاقتصاديون في إجراء التوقعات مثل الاستقرار والكفاية، بل ان هذه البيانات تخضع لاختبارات احصائية للتأكد من صلاحيتها وكفاءتها لإجراء التوقعات قبل استخدامها.
كما ان القيام بتقدير توقعات لقيم بعض المتغيرات واتجاهاتها قد يتطلب استخدام نماذج اقتصادية قياسية تكون مؤسسة على إطار نظري سليم وفهم عميق للعلاقة بين مختلف المتغيرات الاقتصادية .. وبالمثل لمن يستخدم البيانات المقطعية أو الموسمية أو المسوحات، ينبغى التأكد من مدى تكامل تلك البيانات واتساقها وكفايتها حتى يمكن الاعتماد عليها فى اجراء التنبؤات وتقدير القيم المستقبلية لبعض المتغيرات الاقتصادية وتبيان كيف تتحقق اثار السياسات الاقتصادية المطبقة والإطار الزمني لتلك الآثار المحتملة، فضلا عن أهمية تحديد اتجاه تأثير المتغيرات الاقتصادية ضمن ما يعرف بتحديد المتغير التابع والمتغير المستقل.
ان إسقاط بعض الأحداث على حالة الاقتصاد الليبي دون النظر إلى خصوصيته والظروف الموضوعية التي يمر بها ، وتجاهل بعض الحقائق التي تعقد المشهد وتحول دون أية قراءة سليمة لما يجري، يجعل من تلك الإسقاطات التي يقوم بها البعض وتنبؤاتهم، وما تنتهي اليه من قراءة للمؤشرات الاقتصادية المحتملة، أو السياسات التي يمكن ان تطبق، أو الآثار التي يمكن ان تترتب عليها ونتائجها المحتملة، لا يعدو كونه تخمين ( يا تخطيء يا تصيب ) باستثناء محاولات بعض المجتهدين من ذوي التخصص أو الخبرة والتى ينبغي ان تؤخد بكثير من الحذر، وهو حال المستخدمين لهذا الفضاء الافتراضي ( الفيسبوك ).
وهناك من لا يكتفي بتقديم قراءته للأحداث وتوقعاته بل يشكك في نجاح ومصداقية الاقتصاديين وتفسيراتهم لمجريات الوقائع والأحداث الاقتصادية، الذين يلتزمون بمناهج البحث الاقتصادي وأصول التنبوء والتوقعات، وهي مناهج بحث يعرفها الاقتصاديون و يجهلها الكثيرون، ويلقي باللوم على الاقتصاديين ويتهمهم بالتقصير لعدم اقتناعه بقراءتهم للمؤشرات أو نتيجة لعدم توافق هذه القراءات مع ما يعتبره القراءة الصحيحة.
وفي معرض الحديث عن تخصص الاقتصاد الذى يهتم بالتنبؤات الاقتصادية، نجد هناك من ينظر بدونية لهذا التخصص، وهو أسوا ما يمكن ان يقع فيه متخصص في مجال اخر، ذلك ان تخصص الاقتصاد هو التخصص السهل الممتنع، وهو علم متطور وبه الكثير من المستجدات والاتجاهات الفكرية الجديدة، ليس فقط في النظرية ولكن في أساليب التحليل والقياس أيضًا.
فالاقتصاد ليس قوالب جامدة، ومن يجهل منهجية البحث الاقتصادي وآلياته نجده يصدر أحكاماً لا تمت بصلة إلى الحقيقة عندما يتهم الاقتصاديين بالتقصير، ومنهم من يرى ان التحليل الاقتصادي يمكن إخضاعه تكلفاً لضوابط ومعايير ومنهجيات العلوم الطبيعية والتطبيقية الأخرى التي تجرى عادة في المعامل المغلقة والمختبرات، رغم ان مجال علم الاقتصاد ومختبره هو المجتمع ويهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية والسلوكية وتخضع تحليلاته لكثير من التجريد. وتخصص الاقتصاد ومن يمتهنه لا يعتبر مسؤولاً عن الأزمات التي مرت بالعالم، أو تمر بها اقتصادات بعض الدول من وقت لآخر، والتي تكون في معظمها نتيجة لأزمات سياسية أو فساد اوقصور ونقص فى المعلومات اوضعف في أداء مؤسسات المراجعة والمحاسبة أو المؤسسات الرقابية الحكومية، أو نتيجة للمضاربات التي تشهدها الأسواق المالية.
علم الاقتصاد كان في الكثير من الأحيان يقدم الحلول والمعالجات، ويعطي تفسيرا للكثير من الظواهر ومحاولة عقلنتها، وما جوائز نوبل للاقتصاد التي تمنح سنويا الا اعترافا بمساهمات الاقتصاديين في معالجة وتوضيح مختلف القضايا الإنسانية والفكرية، والمتتبع لتاريخ الفكر الاقتصادي والوقائع الاقتصادية يمكنه الوقوف على إسهامات علم الاقتصاد المختلفة، وقد تمكن احد الاقتصاديين الأكاديميين من التنبوء بالأزمة المالية العالمية 2007-2008 والتي كانت نتيجة لازمة الرهن العقاري وما تبعه من أزمة النظام المصرفي، اما ما يدلي به بعض الحذاق وما يتخذه بعض صناع القرار غير المتخصصين من إجراءات ويقدمونه على انه اقتصاد أو نتيجة لتفكير وتحليل اقتصادي، بعيدا عن الفهم السليم لحقائق الاقتصاد ونظرياته.