فتحية الجديدي
كان صوتي عاليًا ومدويًا، وقد امتزج بقهقهة بريئة صحبة الأصدقاء، بينما كنا نستعجل صديقنا «الغدامسي» للقبض على الليل واحتساء قهوتنا على إطلالة النافورة الملونة بأضواء المدينة في ربيعها الرمضاني المكتنز بالود، حين لازمنا فضاء «حوش محمود بي» في انتظار انطلاقنا، آنذاك دنت صوبنا شخصية لا تكاد تنطق إلا روعة في لطف غير مصطنع -مدفوعة بصوت ضحكاتي وأنا أقدم تعليقًا كوميديًا لصديقي المنتشي بحضورنا لا أجد داعيًا لذكره هنا هههه» – قطع حديثنا واقترب وقدم لي عرضه قائلًا لدي دور مسرحي هل تؤدينه ؟ أعاد طلبه .. «هل تقومين بأداء دور مسرحي فتحية ؟ « أجبته ولما لا ، وفي اعتقادي بأني سأقف على خشبة المسرح لأقدم دورًا صغيرًا جدًا ومساندًا أو ألقي نصًا من خلف الستارة أو أقوم بقراءة تعليق على مشهد بالمسرحية ما، أو ربما أؤدي مقطعًا موسيقيًا يكون خلفية فنية لإحدى الأعمال المسرحية المكتوبة ، ولم آخذ الكلام على محمل الجد ، حتى وجدت الكاتب المسرحي «عبدالعزيز الزني» يقوم بتفتيش هاتفه ليخرج من قائمة الملفات مقطعًا مصورًا لصوت امرأة تستغيث وهي تغرق في سيل درنة أثناء الكارثة الإنسانية المفجعة التي تلقتها في سبتمبر العام الماضي وهي تردد عبارات بنبرة صوتها القوي وبكائها وأنينها الملازمين لحركتها الثقيلة وسط فيضان أكل غيرها بشرًا كثيراً، وقضى على ملامح المدينة «كملامح وجهي التي تغيرت وأصابني البكم» وأنا أحدثه :يمكنك أن تفرغ النص وتعطيني إياه ، لم يتكلم ولكن نظرة عينيه الحادة والمرتشقة في عيناي تسألني «هل تستطيعي أن تكوني حالة هذه المرأة ؟» لا أعتقد بأني أجبته لأننا سرعان ما انفكت دائرة العرض وصار الأصدقاء يسيرون صوب ركننا المعهود ونحمل معنا باقات من الياسمين الناصعة لتزين جلستنا المنتظرة ، لم يرافقنا «الزني» ولم آخذ عرضه على عاتقي واكتفيت بفسيفساء صنعها أصدقائي وهم يخبروني عن قراءاتهم الممتعة بتنوعها حتى عاد بي آخر الليل إلى بيتي ونهضت بداخلي حالة من الغضب والوجع معًا وحالة استحضار لصورة قدمت لي لأكون أنا ، واعتصرني ألم وصراخ تلك الغريقة في أذني حتى وجدتني أصرخ عاليًا بصوتي الجهور « ياالله .. ياالله .. رحمتك « وبعبارات باللكنة الدرناوية التي لا أفقهها إلا تقليدًا « يانا عليَ .. يانا عليَ» وتحولت غرفتي إلى مكان لبروفة المسرح وكأنني أقول «للزني» أنني قبلت عرضه الموجع وعرفت حينها لما اختارني فكانت ملامحها وصوتها قريباً مني، أما اللعب على الروح فهي من اختصاصه ، وفيما اللكنة فهو يعول عليها من ارتجالاتي التي يشاهدها بين الحين والآخر – على ما أعتقد- وما أروع النوم بعد انتهاء الدور .