منصة الصباح

عدسات المقالة

مناف بن دلة

لطالما ألح عليّ الأستاذ جمال الزائدي أن أكتب مقالة أسبوعية, وفي كل مرة يفاتحني بالموضوع أجد طريقة ما للهروب من طلبه وتغيير مجرى الحديث إلى اتجاه آخر.

ومرد تخوفي إلى شعور يستولي عليّ, أن تلك الكلمات التي سأخط لن ترقى إلى مستوى يشار لها بالبنان معه ويقال (اقرؤوهافإنها رائعة), ولكنني سأكتب استجابة لطلب الأستاذ الزائدي, الذي أعاده عدة مرات, تشجيعا لي على خوض مجال الكتابة,وربما مواساة لحالي البائس.

ولا يظنّن قارئ لما سبق أنني لم أكتب مقالة من قبل, فقد فعلتها مرارا – وأخالني كنت مجنونا – حينها, أو غير مدرك لصعوبة كتابة مايمكن تسميتها فعلا بالمقالة الصحفية.

وتنبع صعوبة ذلك من أن القارىء عندما يقتني صحيفة ليطلع على مقالاتها سيفترض أنه يقرأ رأيا متخصصا, يقدم له إضافة في المواضيع الذي ناقشتها تلك المقالات, سواء كان استشرافا للمستقبل أو تحليلا على أسس علمية أو طرحا لمآلاتأو كشفا لكواليس لا يعرفها, فإن خلت من كل ذلك لم تزد أن تكون أقرب لما يكتبه الهواة على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي والمراهقون في مذكراتهم.

وبعد أن اطلعت على مقالات لكتاب أفذاذ ملئوا صفحات جرائدنا بروائعهم, أيقنت أن ماكتبته سابقا لم يتجاوز كونه محاولات فاشلة, ولجأت إلى شبكة الإنترنت, لعلي أجد فيها ما يكون نبراسا يهديني السبيل ويعلمني أبجديات كتابة المقال الصحفي.

ولم أجد في كل ما قرأت ما يشفي غليلي, إلا أن ضوءاً ظهر في نفق حالتي المظلم, وكان أمر ظهوره صدفة, فبينما كنت اقرأ تقريرا عن تدريس الفلسفة للمبتدئين, لفتت انتباهي قاعدة (العدسات الخمس) المذكورة في كتاب “AQA AS Philosophy” لمؤلفيه الثلاثة  جونز وهايواردو كاردينال فأسقطها – مع بعض التحوير- على أساسيات كتابة المقال الصحفي.

أولى العدسات هي عدسة الفكرة, فإن لم تختمر فكرة ما حول موضوع بعينه فلا يمكن لكلماتك مهما بلغ سحر بيانها أن تتحول إلى مقالة ناجحة, وثانيها عدسة المصطلحات فلابد أن تكون هذه الأخيرة مضبوطة (خاصة إن كانت المقالة ذات نهج علمي) ولا يجنح كاتبها إلى الغريب, فالمقال موجه بالأساس إلى عامة الناس على إختلاف مداركهم وخلفياتهم العلمية والثقافية.

والثالثة عدسة الحجج التي يقدمها الكاتب دعما لرأيه, إذ يستحسن أن تكون دامغة, وأن يراعي مناسبة موضوع المقالة لطريقة طرحها, فبعض المقالات يناسبها الطرح الجدلي (الديالكتيك) وأخرى تتفق مع السرد القصصي, وهكذا.

أما الرابعة فهي عدسة البنية, وهنا تحديداً تظهر كفاءة الكاتب وقدرته على توجيه المقال وفقاً لإمكانياته اللغوية وطريقته في رصف الكلمات, فإما أن يجعلها تتراقص مكونة فرقة موسيقية رائعة, وإما أن تظهر كخليط متنافر القوام يصعب على قارئه الاسترسال في مطالعته.

وخامسة العدسات الخلاصة, وهي الخاتمة وأهم محتويات المقالة, لأنها تطرح وجهة نظر الكاتب النهائية وما أراده من كتابته لمقالته, وقد تقود عبر تساؤل يطرحه إلى مقالات جديدة وسجالات عديدة.

ومن خلاصة القاعدة إلى خلاصة قولي, أعترف أنه ماكان يحق لي أن أذكر – وأنا السائر في بداية هذا الطريق إن قدر لي ذلك–ما وصفتها بأساسيات صنف من الكتابة لم أتمكن من أدواته بعد, لكنها طريقة تعودت عليها, بأن أتعرض بالدراسة لكل باب جديد ألجه وكل طريق في الحياة أختاره.

وقمين بي في النهاية القول أن المقالة وإن اعتمدت على قواعد وأسس, فهي فن قبل كل شيء وبعده, يبدع في كتابتها من ملك أدواته, ويتألق في صياغتها من شغف بالجمل وتركيباتها قراءة وكتابة, وينجح في عالمها من قدّس الكلمة وعاملها كأنه بضعة منه.

 

 

شاهد أيضاً

وفد صندوق دعم الإعلاميين يزور عميد المصورين محمد كرازة

زار وفد من صندوق دعم الإعلاميين مساء اليوم الخميس، منزل عميد المصورين الليبيين الصحفي محمد …