منصة الصباح

” طَبْلِية من السماء”

جمعة بوكليب

زايد …ناقص

لو كُتب العنوانُ أعلاه باللهجة الليبية المحكية لربما كان ” مَعْجنَة أو قصعة من السماء.” موائد السماء- سواء أكانت في طبلية أو قصعة أو معجنة- ليست غريبة على خيالنا. ولأنّه دوماً من السماء تأتي المعجزات، فانزال طبلية، أو قصعة أو معجنة، مليئة بطعام أمرٌ هيّن جداً، لدى المقارنة بالمعجزات الكبرى. “طبلية من السماء”، ليس اسم معجزة، بل عنوان قصة قصيرة، كتبها القاص المصري المرحوم يوسف إدريس، ونشرت في واحدة من مجموعاته القصصية.
هناك قصص قصيرة أو روايات، يقرأها المرءُ مرّة ولاينساها مطلقاً. وتظل كامنة حيّة في ذاكرته. ثمة أسباب عديدة يمكننا أن نعزو إليها ذلك. إذ ربما يكون السبب ناجما ًعن غرابة حكايتها، أو لامعقولية الحدث الذي تنقله للقاريء. وأحياناً ربما لطرافتها أو شدّة حزنها وما تتركه في النفوس من آسى.
” طبلية من السماء” تُعدُّ واحدة من تلك القصص القصيرة. قرأتُها منذ أعوام بعيدة نسبياً، ونُقشت في ذاكرتي. قصة بطلها الحقيقي الجوع، أو الغول كما وصفه ابراهيم الكوني في مجموعته القصصية الأولى المعنونة “الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمس.”

القصة تجعلك تنقلب على قفاك من الضحك. لكنها بعد الانتهاء من القراءة، تجعلك تشعر بحزن لم تألفه من قبلُ. حزنٌ يغيّرك من الداخل، ويجعلك ترى العالم بعينين مختلفتين. ترى الدنيا العجيبة على حقيقتها، فتتمنّى، كما تمنّى الراحل غسان كنفاني على لسان أحد أبطال قصصه، لو أنك كنت قادراً على تدمير العالم، وإعادة بنائه من جديد، كما يشتهي قلبك في تلك اللحظة.

وباختصار آمل ألا يكون مُخلاً، تدور أحداث” طبلية من السماء” في قرية مصرية من قرى الصعيد النائية والمنسية والمحافظة جداً. سكانها من الفلاحين الفقراء الذين يحرص المؤرخون على تجاهلهم، فيما يكتبونه وينشرونه من تواريخ فراعنة مصر وعظمتهم وأمجادهم.

بطل القصة مواطن مصري معوز، يقتات على ما يصله من صدقات طعام من أهل قريته المعوزين. أحياناً ينسى أهل القرية اطعامه، فيجوع ويصبر. لكن حين ينفد صبره، يخرج إلى وسط القرية ويتعرّى من ملابسه، ويجذف ضد الله حدّ الكفر والعياذ بالله. القصة تحكي واحدة من تلك المرّات. غادر بيته جائعاً غاضباً، وذهب كالعادة إلى ساحة القرية، وأعتلي تلةً صغيرة في وسطها، ورفع عينيه نحو السماء، وبدأ في مخاطبة الله تعالى، متسائلاً عن الأسباب التي تجعله لا يرفع عنه الفقر ويأخذه لأمريكا. ويتوعده بأنّه سيتعرّى من كل ملابسه، ويبقى كما ولدته أمه، إن لم يأته بطبلية من السماء، مليئة بالطعام. سكان القرية ينزعجون جداً حين يرونه يعتلي التلة الصغيرة، لأن الحكاية ليست جديدة عليهم. لذلك سريعاً ما ينتابهم الندم ويدركون أنهم انشغلوا عنه بأعمالهم وهمومهم، ونسوا أن يأتوه بطعام. ويسارعون إلى تهيئة وجبة له كما يشتهي. في حين أن جزءاً آخرمنهم يظل قرب التلة يرجونه ألا يتعرّى من ملابسه، ويتمنون عليه ألأ يكفر. وهو منشغل عنهم بترديد تلك الاسطوانة المعروفة والتعرّي. ولاينسى في الأثناء أن يُملي على الله ما يجب أن تحتويه الطبلية المنزّلة من السماء مما يشتهيه من طعام ولحم. كونه يدرك من التجربة، أن الواقفين حوله ينقلون بسرعة ما يقوله إلى النسوة اللاتي يطبخن له الوجبة. وحين يجهز الطعام ويأتون به إليه في طبلية، يرتدي ملابسه، ويهبط من التلة، ويجلس لتناول ما أحتوت الطبلية من طعام، حتى يشبع، ويهدأ الغول.

شاهد أيضاً

لغة السنغال… ليست عربية

 بقلم: د. علي عاشور السنغال دولة أفريقية مسلمة، ومستعمرة فرنسية سابقة، يبلغ عدد سكانها أكثر …