منصة الصباح

شمس خضراء

شمس خضراء
-__

محمد الهادي الجزيري

من حين إلى آخر..، أختار كاتبا تونسيا لأعرّف به ، وقد انتقيت اليوم مبدعا يعيش في جنوب البلاد ويشرف مع بعض الرجالات الوطنية على مهرجان الشعر بمدينة توزر، على كلّ أحتفي به وبمجموعته القصصية ” شمس خضراء ” وأقدّمها للقرّاء ..علما أنّ محمد بوحوش كاتب متعدّد المشاغل فهو شاعر وقاص وروائي وناقد وناشط اجتماعي ..وزد على ذلك ..بشاشته وشهامته ..
القصة الأولى في هذا المتن السرديّ بعنوان ” الرجل الضحوك ” ، ما أن أنهيتها حتّى وجدت نفسي سابحا في همّنا الوطني بحذافيره ..، إذ دخل السارد نصّه القصصي بأحزانه كلّها، بانقطاع المواد الأساسية من السوق ..، رغم أنّه يصطنع الضحك والتفاؤل ..لينجو من تهمة السوداوية ..، إلا أنّ آثار الحالة التونسية بيّنة عليه ..، وأقتطف لكم مقطعا منها :
” صرتُ أتغاضى عن كلّ شيء في الحياة، وأضحك من تذّمر الناس وشكاواهم العديدة، كأنّ لسان حالي يقول: الخبز الخبز… ألا تستطيعون العيش من دونه؟ كلوا أيّ شيء آخر، ولو اقتضى الأمر أن تقتاتوا من الخضراوات وحتّى بعض الأعشاب كالخُبّيزة مثلا ”
يلجأ السارد إلى الحلم وأضغاثه ليكتب لنا قصة فيها من الغرائبية والعجائبية الكثير ..، وعنوان هذا المتن هو ” يمسكان بذيل حمار “، وخلاصة الحكاية : رجلان يتصارعان من أجل حمار ..أولا لشيء ..ربما الحقد والغيرة..، وبعد أن يتعبا من العراك ..ينامان ويحلمان بالحمار ..يمسكان بذيله قبل أن يفلت منهما تاركا في أيديهما ذيله ..، هنا تتدخّل الغرائبية في القصة ..، فمراد وهو الشخصية الرئيسة ..يفقد ” عفيف ” الذي صارعه …ولا يجد له أثرا ..ويفسر ذلك بأضغاث حلم ..، أمّا الحمار سبب العراك فتبين أنّه شبح لفزاعة لحقل بعيد ..، المهمّ أنّ هذه القصة فيها الكثير ممّا يحدث في الوطن ..، إذ ثمّة من يتصارع من أجل ذيل الوهم ..:

” استيقظ من غفوته ليدرك أنّ الحمار الذي بدا له شبحا كان مجرّد فزّاعة في حقل بعيد، نفض الغبار عن ثيابه، وسار في الوادي باحثا عن ذلك الشيء الذي يزعمون عنه أنّه ثروة مخبّأة في واد سحيق، وظلّ يمشي سائرا في نومه وأضغاث كوابيسه ”

في الحياة ..لا بدّ من صدمات كثيرة لكي نفيق من حالات معيّنة نكون فيها شبه أموات أو آلات مبرمجة ..أو كلّ شيء سوى حلفاء الحياة ..، وفي هذه القصة التالية ” الآنسة التي اصطدمت بجدار ” ، كأنّنا بالسارد أو محمد بوحوش يكلّم نفسه في كلّ كلمة كتبها، صحيح أنّ العيش كما ينبغي وكما نشتهي ونحبّ ..صار محض خيال ..في ظلّ التزاماتنا اليومية وقوانين العرف والعادة والتقليد ..، صار الواحد منّا يفيق ويغفو على إيقاع الواجب والمسؤولية تجاه العائلة والآخرين ..، صرنا حلقات مفرغة إلا من التبعية ..وأعتقد أنّ الإنسان المعاصر وخاصة ساكن المدن ..أمسى آلة معدّة لفعل أيّ شيء ..ما لم يثور على المنظومة العالمية ..وهذا صعب تحقيقه ..، لقد برهن محمد بوحوش أنّ الإنسان فقد آدميته وأمسى مبرّمجا من الصباح إلى ساعة الإغفاءة ..ولله في خلقه شؤون ..:
” ..وهي تقول لنفسها ( ذاك الجدار هو الحلّ ) ، غيّرت نقّال السرعة إلى الدرجة الرابعة، واتجهت بسيارتها إلى الجدار لتصطدم به في نزوة منها، كان صوت ما يرقبها مقهقها ومردّدا ( هل كان الذي اصطدمت به حقّا جدار؟ ، هل كان لا بدّ لها من صدمة كي تفيق من غفوتها ؟)، ثمّ هي ترى كم من جدار عليها الاصطدام به كي تتعلّم القليل من الحياة ”

كما لا بدّ من نهاية لكلّ بداية..، انتقيت القصة التي أهدت عنوانها للمجموعة ، فمع ” شمس خضراء ” سننهي هذه الإطلالة على هذا المتن السردي لمحمد بوحوش الذي ما يزال يكتب ويبدع رغم الحزن الذي ينخر فيه ..، أحييه وأدعوه إلى مواصلة البذل والإصرار أنّ غدنا أجمل وأرقى ..، نعود إلى القصة التي خلاصتها أنّ رجلا غير عابئ بشيء سوى انتظار الشمس كلّ فجر ..ويصحو لها في ذات التوقيت ..، رجل غير مكترث بشيء كأغلب الخلق له هدف وحيد اصطياد الشمس الخضراء ..واللون الأخضر يشير إلى تونس …، وينسدل الستار على السرد على رجل في الظلام .. لاعنا ومنتظرا لا شيء ..كأنّه ينتظر “غودو” للكاتب الايرلندي صمويل بيكيت …

شاهد أيضاً

يوم للصحافة ام للحرية!

فتحية الجديدي لا مناص بأن حرية الصحافة تُعد بمثابة الضلع الثالث لبناء العمل الصحفي الجاد …