منصة الصباح

سيرة كورتسيو مالابارتي: الأديب الذي جسَّد تناقضات القرن العشرين

النشأة وإعادة اختراع الذات

ولد “كورت إيريك سوكيرت” (الذي عُرف لاحقًا بـ” كورتسيو مالابارتي”) عام 1898 في مدينة براتو الإيطالية، لأب ألمانيٍّ وأمٍّ إيطالية. اختار لنفسه اسمًا مستعارًا (“مالابارتي”، بمعنى “الجانب السيء”) كتحدٍّ رمزيٍّ لما رأى فيه عُقْدة الهُويَّة التي لازمتْه طوال حياته. تشكَّلَتْ شخصيته الأدبية في خضمِّ التحوُّلات السياسية العنيفة التي عاشتها إيطاليا، من صعود الفاشية إلى سقوطها، فكانت كتاباته مرآةً لصراعاته الداخلية وتنقُّلاته الفكرية بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.

“الفاشية والانزياح عنها: رحلةٌ في متاهات الولاء”

بدأ مالابارتي مسيرته السياسية متحمِّسًا للفاشية، بل يُنسب إليه صياغة مصطلح “الفاشية” عام 1922، لكنَّ انتماءه لم يكن أبدًا انقيادًا أعمى. ففي حين خدم النظام كجنديٍّ ومراسل حربيٍّ، كانت كتاباته تُلقي بظلٍّ من الشكِّ على مبادئه.

يُبرز سيرا في سيرته أن مالابارتي، رغم علاقته الوثيقة بموسوليني، كان يعد الفاشيةَ “مسْرَحًا للقوة” أكثر منها عقيدةً راسخة، وهو ما يفسِّر تحوُّله لاحقًا إلى ناقدٍ لاذعٍ لها في أعماله الأدبية.

“الأدب كسلاح: بين السريالية والواقعية القاسية”

يُعد مالابارتي من روَّاد الأدب الذي يمْزج بين الواقع والخيال بمهارةٍ ساحرة. ففي روايته “كابوت” (1944)، التي كتبها أثناء عمله مراسلًا في الجبهة الشرقية، يصفُ فظائع الحرب العالمية الثانية بِلغةٍ سرياليةٍ تخلطُ بين الجمال والرعب، مصوِّرًا جثث الجنود المتجمِّدة وكأنها “منحوتاتٌ من ثلج”.

أما رواية “الجلد” (1949)، التي تدور أحداثها في نابولي المُدمَّرة بعد الحرب، فهي سرد مرضيّ عن انهيار القيم الإنسانية في زمن الفوضى، حيث يصبح جلد الإنسان سلعةً تباع في السوق السوداء!

الوجه الخفي: التواطؤ والمقاومة

تكشف سيرة سيرا عن جوانب مظلمةٍ في حياة مالابارتي، كتعاونه الظاهري مع النازيين أثناء احتلالهم لإيطاليا، بينما كان يُخفي يهودًا في فيلته بكابري، ويزوِّد المقاومة السرية بالمعلومات. هذا التناقض بين “الخائن” و”البطل” يجعله شخصيةً إشكاليةً يصعب الحكم عليها، وهو ما يؤكِّده سيرا بقوله: “كان مالابارتي يُلاعب النار بكلتا يديه، لا ليحترق، بل ليضيء ظلام عصره”.

مالابارتي والصالونات الثقافية: كابري كمركزٍ إشعاعٍ فكري

تحوَّلت فيلته في كابري، “كاسا مالابارتي”، إلى مجمعٍ لأبرز مثقفي القرن العشرين، من جان بول سارتر إلى ألبير كامي، ومن غراهام غرين إلى كارسون ماكولرز.

كان مالابارتي يُدير حواراتٍ ساخنةً عن الفن والسياسة، مستخدمًا سحْر الشخصية وبراعة الاستفزاز لكشف تناقضات ضيوفه. يذكر سيرا أن هذه الاجتماعات لم تكن ترفيهيةً فحسب، بل مشاغل فكريةً تمهِّد لما سُمِّي لاحقًا بـ”ما بعد الحداثة”.

إرثٌ أدبيٌّ ملتبس: بين التقديس والانتقاد

ظلَّ مالابارتي، حتى بعد وفاته عام 1957، موْضع جدلٍ نقديٍّ عنيف. فبينما يرى فيه البعض “نبيًّا” سبق عصره في كشفه عن زيف الأيديولوجيات، يراه آخرون “انتهازيًّا” استغلَّ الفنَّ لتلميع صيته.

لكن سيرا يدفع بالقراء إلى تجاوز هذه الثنائية، مشيرًا إلى أن عظمة مالابارتي تكمن في كونه “كاتب التناقضات” الذي جسَّد أزمات إنسان القرن العشرين، المحاصر بين الإيمان بالفكرة والخيانة لها.

الأقنعة التي كشفت الحقائق

يختتم سيرا سيرته بِطرح سؤالٍ جوهري: هل كان مالابارتي مجرد متلاعبٍ بالكلمات، أم فيلسوفًا أدرك باكرًا أن الحقيقةَ ليست سوى سلسلةٍ من الأكاذيب المُتقنة؟

الجواب يكمُن في أعماله التي تبقى شاهدةً على عصرٍ من الدماء والضحك المرّ.

فكما قال مالابارتي نفسه: “لم أكذبْ قطُّ، بل اخترعت وقائع أكثر إقناعًا من الواقع”. وهنا يظهر إبداعه: تحويل السيرة الذاتية إلى مرآةٍ تعيد تشكيل التاريخ نفسه.

ما يجعل سيرة سيرا استثنائيةً هو نفسها الإنساني؛ فهي لا تسعى لتبرئة مالابارتي أو إدانته، بل لفهمه كظاهرةٍ ثقافيةٍ تعكس تشظِّي القرن العشرين.

ولعلَّ في هذا ما يفسِّر سبب استمرار صوت مالابارتي اليوم: ففي زمننا المليء بالأقنعة، نجد في سيرته ما يشبه دليلًا لفنِّ العيش بلا يقين.

شاهد أيضاً

افتتاح ليالي مصراتة الثقافية في الحديقة المركزية

شهدت الحديقة المركزية بمدينة مصراتة افتتاح فعاليات ليالي مصراتة الثقافية، وذلك بحضور أعضاء المجلس البلدي …