منصة الصباح

خرس الحب

فتحية الجديدي

كانت تروي لنا بعض الحكايات والقصص التي تركت أثراً في حياتها، فقد كانت تخبرنا عن معاناتها وتخطيها الظلم وتشربها قساوة الحياة، عندما تزوجت في سن مبكرة وأنجبت وهي لا تعي من دروب الدنيا وخطوبها إلا القليل، حتى أن جسدها النحيل لم يسعفها علي تحمل الأعمال الشاقة والثقيلة، عندما كان جدي يتركها لساعات طويلة وأحيانًا أياماً بحالها للعمل في جني الزيتون.
في مرة أخبرتنا أنها سمعت صوتا يناديها فانكبَت خوفاً على خالي الابن الذي جاء بعد ثلاث بنات – كي لا تأكله الغولة حسب اعتقادها – وقد كانت آنذاك تخرج الأواني وتقرع عليها كي تهرب تلك الغولة.
ومن حكاياتها أنها كانت تحمل أمي فوق كتفها وخالتي على الكتف الآخر وهي تطحن الشعير، فسقطت والدتي علي خشبة الرحيل واصابت جبينها الصغير – لأنها كانت كثيرة الحركة – كما قالت لنا واختلط الشعير بدم أمي وخسرت جدتي الغذاء التي كانت تعده أمام مدخل رواقها.
لم أكف يوماً عن سماعها، ولم يخالطني ملل وأذناي مشنفة لصوتها الجميل، خاصة إذا رددت الأغاني، وكثيراً ما فعلت ذلك، وأزعم أنني ورثت تلك الصفة منها، فلا أبرح أغني ما أحفظ لها بعض الأبيات التي ترددها بحرقة على تلك الأيام، ونحن في بيتها الصغير الدافئ بعد أن صارت لها عائلة وعزوة من الأحفاد «أنا أكبر إناثهم»، لأن خالتي الكبرى أنجبت ولدًا أسمته «ناصر»، أرضعته جدتي إلى جانب خالي الأوسط – عندما انشغلت أمه عنه.
أحبت جدتي ذلك الحفيد جداً، وكانت تحلف باسمه لغلاوته على قلبها.
كانت جدتي قوية وحنونة معاً، وصنعت نبرتها الحادة سر تميزها عن باقي إخوانها الذين رحلوا عن الدنيا قبلها، ما أحدث في فؤادها ضعفاً أفصحت عنه عيناها.
ذلك الفؤاد الذي كلم كثيراً، ظل قوياً إلى آخر زفراتها في هذه الحياة، وهو ما أخبرنا به الطبيب، بأن قلبها هو الجزء الذي ساعدها في بقائها حية، بينما كان الالتهاب يأكل صدرها كاملاً.
ماتت جدتي، وسكت «البوطويل» وغابت رائحة «السخاب» ولم يعد لمكانها المعتاد روح، وتحولت غرفتها إلى بهو مظلم لا صوت فيه، بعد أن كان موئلاً للأفراح ومرتعاً للعب الأحفاد.
مضت جدتي إلى بارئها – حيث الرحمة في منتهاها – واختفت يداها الصغيرتان المسكونتان محبة .. وخرس الحب بعد فقدها.

شاهد أيضاً

الـولاء للـــوطن

مفتاح قناو لا يمكن للمواطن الليبي العاشق لتراب هذا الوطن أن يكون شيئا أخرا غير …