منصة الصباح

حكاية “مناكفاتُ الربعِ الأخير”

زايد …ناقص

جمعة بوكليب

 

رحمَ الله الشاعر الصديق محمد الفقيه صالح. كان هو من جرّني إلى الوقوع في فخ من فخاخه الجميلة. قبل أن يُصابَ بالداءِ الذي فتكَ به، وحرمني صحبته، كان يحرصُ أن يهاتفني ليلاً من مدريد، حيث يقيم، ليقرأ عليَّ آخر ما ألتقط شعرياً من لحظات مميّزة، تمكن من اقتناصها، وأطلق عليها اسم مناكفات الكهولة. القصائد الشعرية تلك تميّزت بقصرها وشدة كثافة لحظاتها وعذوبة حزنها. وعقب انتهائه من قراءتها، نتحدث حولها، ثم، كالعادة،  ننعطف بالحديث إلى أمورنا الحياتية.  تلك القصائد، من دون أن أدري، فتحت أمامي طريقاً لم يكن وارداً في حسباني.  كنتُ، مثله، قد بدأت الدخول، بقدمين مترددتين، مرحلة عمرية أخيرة، تعني الأقتراب من نهاية معروفة. كان محمدُ أكثر منّي تقبّلاً لها، وكنتُ أخاصمها.  مبعث خصومتي كان الإحساس بقرب انقضاء حياة بدت لي كسراب ماء في صحراء قاحلة، ألهث خلفه من شدة الظمأ، ولا جدوى.  وكنتُ أحسّ أن أفضل سلاح لي ضد الكهولة هو رفض الاعتراف بوجودها. لذلك، وجدتُ عندي استعداداً نفسياً لمجاراة الفقيه ابداعياً. كان هو يرسم الطريق شعرياً. يستنطق الكهولة، ويحاورها  كعادته في التعامل مع العالم وتقلباته بهدوء .  وكنتُ أنا أقتفي خطواته نثرياً وسردياً، وعلى عكسه، أخاصم نفسي والدنيا من حولي. كنّا كعازفين يعزفان معاً لحناً موسيقياً، وفي مقام واحد، وفي خطين متوازيين. مقام الكهولة، للأسف، كان مثل مقام السيكا الموسيقي حزيناً. والحزن في ذلك المقام أنواع عديدة. حزن الفقيه بشفافيته ورهافته، يختلف عن الأحباط الذي كنت أهرب منه، وأعاني من أوجاعه.

وجدتني داخلا مع الفقيه في عزف مشترك. نتناوب، وأحداً تلو آخر، على مناكفة غابة غامضة، وهزّ أغصان أشجارها، برغبة دفعها للخروج عن صمتها،  والبوح بمكنون أسرارها. كان العزف يشبه حواراً ابداعياً وانسانياً، بين صديقين ورفيقين ومبدعين: شاعر وقاص طالتهما مخالب الكهولة. كنتُ عقب الانتهاء من مكالمته، انتحي بنفسي جانباً، وأعدّ نصّاً نثرياً يقترب في رهافته وحزنه من حدود الشعر، وداخل حيز مشاغلي وهمومي وأسئلتي. ولدى انتهائي من كتابته، أهاتفه في المساء التالي، وأقرأ عليه نصّي. كان، رحمه الله، بعد سماعه لما قرأتْ، يضحك ضحكة لا تخلو من مكر. ضحكة من أوقع صديقه في فخ، نصبه له بذكاء، وقاده نحوه باصرار وتقصد. ولم أفطن للخدعة إلا بعد وقت، لكنّي استحسنتها. وحين كاشفته بما كنتُ أظنُّ وأعتقدُ، ضحك كطفل، ولم أكن، بعد تلك الضحكة، في حاجة إلى مزيد من الاعتراف. واصل الفقيه كتابة المناكفات، ثم أصدرها، قبل أن يتوفاه الله، فيما بعد في ديوان شعري أخير، أسـماه ” قصائدُ الظل”. ومن ضمن باقة القصائد المنشورة واحدة مهداة لي. وواصلت بعده كتابة المناكفات. لكن الكتابة، في المرحلة التالية، لوحدي، أكتست طابعاً مختلفاً. مناكفات الكهولة أضحتْ ” مناكفات الربع الأخير.”  بعضُها حظي بالنشر في مجلة الجديد اللندنية، وأغلبها مازال مخطوطاً ومطموراً في جهاز حاسوبي.  لكن الكتابة بعد وفاته فقدتْ رونقها، وأزداد ثقل النصوص بالحزن وحسرة الفقدان، فأخترت التوقف.  وما حدث، هو أنني فقدت الحافز الذي كان يحركني داخلياً، ويستفزني متحدّياً ابداعياً. وشعرتُ أني صرتُ كمسافر تفرقت به السبل، فوقع فريسة الحيرة، وأنتهى إلى مواصلة السفر، بلا بوصلة، محملاً بأثقال عمره وتعبه، وما تبقى لديه من زاد لا يكاد يكفيه.

لا أحد يعرف ان كانت مناكفاتي ستواصل الرحلة مجدداً، حتى تصل نهايتها، مطبوعة في كتاب، كما أنتهت مناكفات الفقيه في ” قصائد الظل”.

شاهد أيضاً

سفير بريطانيا يناقش التعاون مع بنغازي اقتصاديا

ناقش سفير بريطانيا “مارتن أندرو لونغدن” والوفد المُرافق له، مع بلدية بنغازي، إمكانية التنسيق لتحقيق …