منصة الصباح

حكاية مرادة

زايد.. ناقص

جمعة بوكليب

كتب كثيرة قد تقع بين يديّ المرء ويقرأها، في فترات مختلفة من حياته، وخاصة في مراحل التكوين المبكرة. أكثرها يتلاشى بمرور الزمن، من دون أن تترك أثراً في مسيرة أيام عمره، وبعضها القليل، حسب تجربتي، تظل حيّة، تتجدد في الذاكرة والوجدان، وكعلامة بارزة  لاتنسى، وأشبه ما تكون بشجرة عظيمة وارفة الأغصان عميقة الظلال، يأتيها متعباً من حين لآخر ليستظل مستجيراً بفيئها من رمضاء الوقت، وليستريح مستنعماً بنسيمها، وليضخ في خلايا عقله ووجدانه بجرعة قوية من نشاط وحيوية لتجديد الخلايا واستنهاضها، ولينفض ما قد تراكم فوقها، بمرور الوقت، من رماد وسخم الدنيا على ما ظل متقداً تحتها من جمر.

كتاب ” موسم الحكايات” للكاتب المرحوم خليفة الفاخري احداها. وقع بين يديّ صدفة، في فترة المرحلة الجامعية بطرابلس، عن طريق زميل دراسة درناوي الأصل، أعارني إياه، وأزدردته في وقت قصير، بمتعة مازلت قادراً على تذكرها، لكنه التهمني بدون مضغ.

ورغم ان الكاتب المرحوم خليفة الفاخري كتب ونشر كتباً أخرى إلا أن أياً منها، في نظري، لايرقى ابداعياً لمستوى كتابه الأول “موسم الحكايات.”

واحدة من حكاياته يعود تاريخها إلى فترة المقاومة ضد الاحتلال الايطالي في منطقة الجبل الأخضر، تقصّ حكاية مواطن من واحة مرادة، تتمكن سلطات الاحتلال من القبض عليه في أحد العمليات العسكرية، وتخضعه للتحقيق، ثم تصدر محكمة عسكرية ضده حكماً بالنفي إلى مراده. وفي الطريق إلى تنفيذ حكم المحكمة، يتذكر ذلك المواطن الغلبان أنه عائد إلى موطنه وليس ذاهباً إلى منفى كما يقتضي حكم المحكمة والذي كان يفترض أن يكون عقاباً!

لست هنا في معرض الخوض في ذلك الكتاب القيّم والممتع، لكني تذكرته هذه الأيام، والعالم يعيش حالة من الفزع والهلع والخوف، سببها فيروس كورونا، وهو يجوب طليقاً قارات العالم الخمس وبلدانه، متخطيا كل الحواجز الطبيعية والبشرية، خالقا الرعب أينما حلَّ، منذراً بموت محقق خاصة لأمثالي ممن تجاوزا سن الخمسين، ويزداد يوماً تلو آخر، قوة وجبروتاً وفعالية، وتتفاقم أعداد ضحاياه، ومسبباً بذلك ارتباك الحكومات، والمنظمات الدولية، والمؤسسات الطبية والأهلية ذات الاختصاص.

في بريطانيا، تحرص الأجهزة الحكومية المختصة، ووسائل الاعلام المختلفة على تحذير المواطنين من الفيروس وتزويدهم بآخر النصائح والارشادات لتفادي الاصابة به، وخاصة كبار السن. تلك الأجهزة الحريصة، على ما يبدو، على حماية كبار السن، خاصة الذين يعيشون منهم في بيوت رعاية المسنين، قررت بدواعي المصلحة العامة والحرص، وقف الزيارات التي يقوم بها الناس لذويهم في تلك الدور، واخضاع نزلائها للعزل الاجتماعي. أما عن العجائز والشيوخ الآخرين، الذين مازالوا يقيمون مع ذويهم في بيوتهم، فقد طلب المسؤولون منهم البقاء في بيوتهم وعدم مغادرتها، بقوة القانون. ونظراً لأني أدخل تحت نفس الخانة في التصنيف العمري، فهذا يعني بالنسبة لي الامتثال لأوامر الحكومة، وتنفيذ ما يطلبه القانون، حرصاً على سلامتي، ووقاية من التعرض لسهم طائش من سهام فيروس كورونا.

وفي الحقيقة، حالتي لا تختلف عن حالة ذلك المواطن المرادي في حكاية الفاخري. فأنا منذ دخولي قسرياً مرحلة التقاعد، وتوديعي لعالم العمل في المكاتب والمؤسسات، صرت لاأغادر بيتي إلا لماماً، وأقضي معظم أوقاتي بين جدرانه، وحديقته، ولا أتركه إلا لقضاء حاجة ضرورية، أو لتسريح مسارب الدم في أوردتي وشراييني، من حين لآخر. وبالتالي، فأن الأمر لا يعنيني، ولايغير سلباً أو ايجاباً، في أجندتي اليومية، ويجعلني، للمرّة الأولى، أشعر بكثير من الإمتنان والرضا نحو حياتي في رحاب عالم التقاعد.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …