مرايا اجتماعية
رصد : كوثر الفرجاني
ابتسمت الحياة أخيرا لـ” شروق” بحصولها على فرصة في مجال العمل الفني والإعلامي.
هل يحاسب الأبناء على خطايا الآباء؟ وهل من العدل أن يؤخذوا بجريرة أفعال آبائهم؟ وهل من حق المجتمع أن يصدر أحكامه وفقا للمظاهر، وأن يصم الآذان عن صرخة الدفاع؟ وهل من الممكن أن يرث الأبناء عن آبائهم انحرافاتهم الخلقية والسلوكية؟
كل هذه الأسئلة دارت في ذهن الفتاة التي تقف على عتبة الأربعين من عمرها، وهي تروي لنا تفاصيل قصتها ومأساتها، في صمت مشحون بالاهتمام أصغينا إليها ونحن نتأمل علامات الثقة في النفس المرتسمة على محياها، والكبرياء الجريحة الصامدة، والإصرار على الحقوق المهدورة ، والقدرة الفائقة على كسب التأييد دونما رغبة في طلب الشفقة، وفوق هذا كله جمال لا تخفيه العين، وبشرة سمراء من النوع الذي يبهر، وملامح جميلة متدفقة بلا اصطناع.
قالت إن هذه الملامح هي نفسها ملامح تلك السيدة التي أنجبتها ورمتها، وهي مازالت في (القماط)و(لحمة حمرا)، في دار الأيتام، ودون ذكر التفاصيل المعروفة التي تتكرر في الحياة، وكأنها قدر مكتوب على جبين هؤلاء الأبرياء من أطفال دور الرعاية الأيتام، مع اختلاف الحظوظ، بين ارتفاع وهبوط، فهناك من يجد من يكفله ويعطيه جزءا من الحياة التي كان يجب أن يعيشها مع ذويه، وهناك من يبقى في الدار إلى أن ترتفع حظوظه ليجد مخرجا.
بطلة قصتنا ارتفعت حظوظها منذ الأيام الأولى من ولادتها، فما أن تخلت عنها تلك المرأة التي من المفترض أنها أم لها، حتى تلقفتها الأيادي الرحيمة الحانية، وفتحت القلب لتضع شروق فيه، وكأن حياتها أشرقت شمسها بشروق هذه الطفلة في حياتها، فكان أن احتضنتها واحتوتها وامتلأت حياة كل منهما بالأخرى.
اغرورقت عيناها الجميلتين بالدموع عندما وصلت في حديثها إلى هذه النقطة لتستطرد قائلة:
– كانت هذه السيدة الطيبة الحنون التي أهدتها لي الحياة هي (ماما)، كانت تعمل بدار رعاية الأطفال، وهي قريبة لأمي الحقيقية، ارتميت في أحضانها فأحبتني حبا ما كانت أمي الحقيقية لتهبني ربعه، فكانت هي النعمة التي وهبني الله إياها، ولم تكتفي برعايتي وتربيتي، بل قامت بتعليمي وتكفلت بمصاريف دراستي الجامعية، فشجعتني على دراسة القانون، وكورسات اللغة الإنجليزية، وتعلمت منها كل ما يجب أن تتعلمه الابنة من أم فاضلة، ولم تترك في خاطري أي شيء، حتى أنها أفرطت في تدليلي، وهو ما انعكس سلبا على طباعي، وكل ذلك بدافع حبها وعطفها، وهو أمر ليس بغريب على من تعمل في دار للأيتام، فلقد جبلت على الرحمة والتعاطف، ولكنها خصتني بحنانها الكبير، وعشت سنوات عمري الأولى أتمرغ في بحور أمومتها ودلالها، وكبرت أتشرب عاطفتها التي لا تنضب، حتى جاءت الصدمة التي جعلت كل شيء ينهار، عندما ماتت أمي التي كفلتني في شهر ديسمبر 2011، وتزوج أبي( كافلي)، واعدا إياي بأنه لن يتخلى عني، وعن رعايتي أبدأ، أبي الذي لم أعرف أبا سواه، تزوج من سيدة شرسة حولت تلك الجنة التي تربيت وعشت فيها إلى جحيم لا يطاق، ولم تدع أي وسيلة شريرة لمضايقتي إلا وسلكتها، أخرجتني من غرفتي في البيت ، وأسكنتني في غرفة الغسيل فوق سطح المنزل، بحجة أن أبي ليس محرما، غيرت أقفال الباب الخارجي لأبقى بالساعات أهيم على وجهي في الشوارع، بحجة أني لا ألتزم بمواعيد الخروج والدخول، وأنني غير نظيفة وغير سوية لأني ابنة فلانة، ولأن المثل المعروف( اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لامها)، ينطبق على سلوكياتي وأخلاقياتي، وإنني جبلت علة الانحراف، ويجري في دمي سوء الأخلاق ، ومع النوايا السيئة التي تضمرها هذه المرأة، بدأت ألسنة الناس التي لا ترحم، عندما بدأوا في ملء رأسها بحقيقة وضعي في بيت أبي كافلي، وهمسوا في أذنها أنني مكمن خطر عليها، بتشويه العلاقة الأبوية التي تربطني به، وأن الدماء التي تجري في عروقي هي دماء امرأة لا أمان لها، وأن علاقة المحبة والاحترام والحنان هي بعيدة كل البعد عن البراءة والأبوة الحانية، ومن هنا بدأت حربها لتدافع وتذود عن استقرارها الأسري قبل فوات الأوان، وتحافظ على بيتها الذي تملكته ولم يعد بيتي وسقفي، وانتشرت الشائعات الخبيثة وحاصرتني في مقتل، فلذت بأبي مستجيرة فوجدته شقيا حائرا معذبا، يريد أن يحميني ويحتويني كعادته، ولكنه في نفس اليوم يخشى على استقراره وبيته، وأنا متأكدة أنه لم يفكر مطلقا في أن يتخلى عني، ولم أشاء أن أحمله ما لا طاقة له به، وقررت أن أضع نهاية لصراعه وألمه، حتى ينعم بما يستحقه من استقرار.
خياران.. الشارع أم الانتحار؟
تبتلع شروق زفراتها، وتجفف دموعها، التي انهمرت في غفلة منها، وتتابع حديثها بألم الدنيا كله قائلة:
– ذهبت إلى أمي التي أنجبتني، أتوسل إليها أن تأويني تحت سقفها، وتحت جناحها، طردتني ولم تعترف ببنوتي ككل مرة، وكأنني لست ابنتها التي جنت عليها في الصغر، لتكرر معها نفس الفعل في الكبر، وأنا أتساءل من أي طينة جبلت هذه المرأة ، لتكون بهذه البشاعة والفظاعة، ومجردة من الإنسانية والرحمة، وهي تعلم بأني بلا مأوى، وبلا سكن، ولولا بعض الصديقات لكان الشارع هو المصير الذي ينتظرني بعد أن طردت من بيت طفولتي وصباي.
تضيف وخيبة الأمل مرسومة على تفاصيل ملامحها:
– وأشار علي أهل الخير بأن اتوجه لوزارة الشؤون الاجتماعية، والتقيت بالسيدة وكيل الوزارة وكان ذلك في سنة 2013، ولكني لم أجد أي آذان صاغية، فهي لم تكلف نفسها عناء الاستماع إلى وأنا أحدثها عن تفاصيل حياتي ومعاناتي، ومباشرة ودون الدخول في حيثيات المشكلة مع زوجة كافلي أصرت أن الحل الوحيد والأخير هو إقامتي بدار رعاية البنات، ودون أي مراعاة لمشاعري، أو أني تربيت في بيت به أب وأم، فأنا لم أتربى بدار الأيتام، بل ترعرعت وكبرت في بيت أم حنون.
وأنا لا أحتمل مجرد فكرة الإقامة بدار رعاية البنات، وأفضل الموت على الإقامة فيها، فخرجت من عند السيدة وكيلة وزارة الشؤون الاجتماعية وكأن لسان حالها يقول لي ، ليس أمامك من خيار، إلا الشارع أو الانتحار.
ولتكمل فصول المأساة لم تجد خيارا إلا الشارع على حد قول شروق، التي غابت شمس حياتها، وأظلمت بغروب العدل الفطري لأم بلا رحمة وبلا أمومة.
أثر البيئة في التكوين النفسي
وللوصول إلى تحليل واقعي من منظور اجتماعي، وفقا لفلسفة نظريات العلوم الاجتماعية، لتفاصيل هذه القصة الواقعية لفتاة في مقتبل العمر، لا زالت تعيش نفس فصول المأساة منذ العام2011، كان لابد من استشارة أهل الخبرة والاختصاص فكان التواصل مع الباحثات الاجتماعيات بمركز الدراسات الاجتماعية، التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، والبداية مع الباحثة الاجتماعية غادة فوزي شحيمة، عضو هيئة التدريس بجامعة الزيتونة، وطالبة دكتوراه بمجال الخدمة الاجتماعية، التي قالت:
– تعتبر البيئة هي التربة التي تنبت فيها فلذات الأكباد، وتأخذ سبيلها نحو النماء، والتربة الصالحة تنبت نبتا طيبا، وأن وجدت احتمالات الفساد، كاستثناء ينطبق على كافة ظواهر الحياة، والتربة الفاسدة تخرج نبتا هزيلا ضعيفا مع احتمالات الاستثناء دائما، ولا أظن أن أحدا يجهل على اختلاف الأديان، أن أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، كان ابنا لأب أعمى الكفر قلبه عن الإيمان، ومن الاستجابة لدعوة ابنه النبي الصالح، وأن سيدنا نوح عليه السلام عجز عن إقناع ابنه بأن يلحق به، وهذا كله يدعونا إلى النظر والاعتراف بأثر التربة، ويعلمنا ألا نطلق الأحكام جزافا، وأن نتوخى الدقة والأمانة والموضوعية التامة في أحكامنا على الآخرين، عند تقييمنا لذواتهم ونفسياتهم، فبهذا تأمرنا الرسالات السماوية ، ويدعونا العقل والمنطق، ولكن للأسف الشديد معايير المجتمع كثيرا ما تفتقر للصواب فتحاسب الأبناء على أخطاء الآباء، كما أنها تصور هذه الخطايا على أساس أنها جينات وخلايا تنتقل بالوراثة، حتى لو تغيرت الأجواء والأحوال البيئية، نظرة قاصرة نتائجها وخيمة، خصوصا في حالة مشابهة مع حالة شروق، فتاة في ربيع العمر، فاقدة سند بالأساس، تربت وترعرعت في بيت أسرة حنونة بسبب نبذ والدتها لها بعد ارتكابها لفعل فاحش، وسترت عليها قريبتها التي كفلت الطفلة وربتها ظنا منها بأن هذا هو الحل الوحيد لطفلة وأمها التي أنجبتها، ومع تفاقم المأساة تحاسب الابنة بجريرة والدتها، وتعاقب على ذنب لم ترتكبه، وتنبذ وتوصم اجتماعيا بجريرة أمها التي أنجبتها ولفظتها، ناسين أن الانحلال الأخلاقي والانحراف السلوكي أمور مكتسبة وليست وراثية، ودائما لها ظروفها ودوافعها، وملابساتها، الأبناء ينحرفون لعدم توافر الأمن الأسري، والشعور بالحرمان العاطفي، ولإحساسهم بالكبت الشديد والتزمت والقسوة، وفي الغالب أبناء الآباء المنحرفين رغم افتقاد القدوة الصالحة والمثل الأعلى يسلكون الطريق السوي في الحياة، رغبة منهم في الفكاك من مثل مصير آبائهم المظلم، وهو ما يؤكد أن الأحكام العامة والمعايير المطلقة تفتقر للصواب والموضوعية.
وكل حالة لها ظروفها والتعميم خاطئ، والأم الفاضلة قد تنحرف ابنتها بتأثير رفيقة سوء، أو بسبب إغراء رجل لا أخلاق له، أو تحت ضغوط تيارات فكرية مخربة هدامة، والأم الضالة قد تنشأ ابنتها فاضلة راغبة في التكفير عن خطايا أمها، مصممة على أن تشق حياتها وفق خط سير مستقيم، لماذا إذن تقيم الفتاة من خلال خطيئة أمها، ونحملها وزرا ما لم ترتكب من الذنوب؟
وهو ما قد يغلق الأبواب في وجهها ويدفها دفعا إلى الاستسلام والتراجع عن كل القيم الأخلاقية والأسرية التي نشأت عليها.
الصمود وليس الاستسلام
وترى الباحثة الاجتماعية ربيعة الفيتوري السنوسي رئيس قسم البحوث والدراسات بإدارة البحوث بمركز الدراسات الاجتماعية، أن شروق كحالة اجتماعية لا يمكن تعميمها، رغم أن الكثير من البشر تضعهم الحياة في ظروف مشابهة لظروف حالتها، عندما يتمادى الآباء في غيهم وتستبد بهم شهواتهم، ويتجردون من إنسانيتهم، ويتجاهلون إساءتهم لفلذات أكبادهم، كما هو حاصل مع شروق، ويتخلون عنهم ويتركونهم للضياع، لتقسو عليهم الحياة مرتين وثلاثة، ويجابهون العالم وحيدين، مع معايير مجتمعية قاسية لا ترحم، ورغم كل ذلك، وفي حالة كشروق تربت في بيت مع أم حنون، وبعد أن كبرت عليها أن تخوض معركتها الضارية لإثبات براءتها وطهارتها، بحفاظها على نفسها، وألا تتقاعس عن البحث لنفسها عن مكان تحت الشمس، وهي واثقة ومليئة إيمانا بأن الدنيا ليست شرا فحسب، وإنما الخير موجود وإن احتاج البحث عنه الكثير من العناء والجهد، وأنا من خلال هذا المنبر الإعلامي أطالب شروق بأن تصمد، ولا تستسلم، وتفرض وجودها الأبي الطاهر على مجتمعها، وتبحث عن مكان لها في محيطها ومجتمعها، وتمارس دورها في الحياة وفقا لما يجب أن يكون، لأن نجاحها في مجال معين، يخدم قطاعا كبيرا من شرائح المجتمع التي تعاني كما عانت وتعاني، ويمكن لها بمؤهلاتها العلمية التي اكتسبتها بفضل السيدة الفاضلة التي ربتها وأنشأتها على أروع ما يكون وكأنها ابنتها وأكثر، بأن كبرتها وعلمتها حتى نالت أرفع الشهادات بالإضافة إلى اللغات، وأن تنتظر عسى أن يرزقها الله بذلك الرجل الذي يؤمن بنظافة معدنها، ويعجب بمقاومتها وكفاحها، وأنها نشأت وتربت في تربة نقية صالحة، وعليها أن ترد الجميل للمرأة التي ربتها وكفلتها وعلمتها، والأب الذي كفلها وأغدق عليها من أبوته وفضله، ما روت به ظمأها العاطفي، الأب الذي رباها فأحسن تربيتها، والذي ضمها تحت جناحه وحمايته وهي طرية العود، رغم أنه لم يكن مكلفا شرعا أو قانونا بذلك.
شروق الشمس
وها هي الفتاة المناضلة التي تعارك الحياة التي لم تهديها إلا الألم، تنتقل بين مختلف المهن لتعول نفسها، تقيم في غرفة صغيرة للإيجار عند إحدى صديقاتها، وتعمل ليل نهار من أجل أن تحفر لها مكانا تحت الشمس وعلى الأرض في وطن أصبح ينبذ أبناءه، ويحرمهم من أبسط حقوقهم في الحياة كالوظيفة والمهنة الشريفة، التي تتلاءم ومؤهلاتهم العلمية، تقيهم خطر الزلل والخطأ، والانزلاق والانجراف في دروب الضياع.
حرمت شروق من وظيفة في مجال تخصصها، ولكنها ومع البحث المستمر والعمل في عدة مجالات استقرت شروق أخيرا في مجال العمل الفني والإعلامي، سائلين من المولى تعالى أن يوفقها في مجال اختارته بملء إرادتها، ووفقا لما هو متاح ليغطي تكاليف الحياة الصعبة التي نعيشها، عسى أن تفتح لها الحياة ذراعيها وتشرق شمسها قريبا.