منصة الصباح

حديقةُ بيتي

زايد …ناقص

جمعة بوكليب

لا شمسَ تدفيء عشبها نهاراً وتُبهجُني، ولا قمرَيَمرحُ في أرجائها ليلاً ويُؤنسني، صباحاً، كل يوم، عبر زجاج نافذة، في غرفة نومي، أطلّ عليها من علٍ، فأراها  منطفئة من شدة الإجهاد، مغمورةً في وحلِ صمتٍ شتائي قارس، وتُركت فريسةٌ لعتم الغيوم وصقيع النسيان: حديقةُ بيتي.

في روايته المعنونة:” الكتابُ الأسود”، ترجمة عبد القادر عبداللي، والصادرة عن دار المدى العام 2003، يقول الروائي التركي أورهان باموق:” الذاكرة حديقة.” تذكرتُ ذلك الوصف، ذات صباح شتائي بارد، وأنا أرى حديقتي الصغيرة تذوي محتضرة أمام عينيّ، من دون أن أبادر بمد يد العون وانقاذها.

شعورٌ غريبٌ استحوذَ عليَّ، وقيّدَ أطرافي بأصفاد. أهو التعب؟ أم اللامبالاة، أم القرفُ من شتاء طويل وبارد، يلتف علي قلبي ويحول بينه وبين الشعور بالحياة؟

لو كانت الذاكرة حديقة، كما وصفها التركي أورهان باموق، لربما كانت ذاكرتي، في سنواتي الأخيرة لا تختلف عن حديقة بيتي في فصل شتاء طويل وبارد، كشتاء هذا العام، ولا يسكنها سوى صقيع النسيان. والنسيان، كما نعرف، موت. أي أن يموت كل من عرفتَ وما عرفتَ. ويبقى الحاضر مقفراً، إلا من زفته وقذارته وأوحاله، مهجوراً من الأحباب والضحكات.

لم تعد ذاكرتي ذاكرتي. ولم أعد أنا أنا. صرت غريباً حتى على نفسي. أحيانا يخطر لي التوقف فجأة أمام مرآة، وتدقيق النظر للتأكد. فلا أراني. وأستغرب حين يطالعني وجه كائن آخر لا أعرفه، ولا أريد أن التقيه. أحياناً أخرى، أسير وحيدا في شوارع مزدحمة بالناس فلا أتعرف على أحد . والعابرون بي لا يعبأون، ولا يبدون دهشة، أو التفاتاً.

الزمنُ تولى عملية تفكيك ذاكرتي قطعة قطعة، وعلى مهل، ومن دون أن أشعر أو أحسّ بوجع أو ألم. الوجع والألم حلا فيما بعد. وجعٌ وألمٌ نفسيان وليس بدنيين. العجيب أن عملية تفكيك الزمن لذاكرتي اتسمت بمكر شيطاني.  بمعنى أن الزمن متعمداً قام بمحو الخلايا التى أُحبُّها، تلك التي تحمل الذكريات الجميلة الدافئة وتطيل العمر، وترك لي حمل ثقل تركة الباقي، في وقت لم أعد أطيق فيه حمل نفسي. الشتاء الطويل والبارد فعل الشيء نفسه مع حديقة بيتي: فككها قطعة قطعة. يوماً بعد آخر، حتى أتى على أجمل ما فيها: ورودها وألقها وحبورها. وتركها مثل ذاكرتي أطلالاً تبعث على الحزن والأسى، وتُذكّر بما كان.

الروائي المصري الراحل بهاء طاهر في كتابه:” السيرة في المنفى” الصادر عام 2007، يقول:” ننقّح الذاكرة بالقراءة.” ربما التنقيح يجدي، إلى حد ما، في أمور أخرى مختلفة، غير التي نقصد، أي ليس من بينها النسيان.

وما يهمُّ هو أن الحياة سوف تُضخُّ في شرايين وأوردة الحدائق، من جديد، لدى حلول دفء فصل الربيع. لأن البذور نائمة في ترابها، وليس على دفء الرييع سوى أن يمر بقربها هامساً فتصحو. وحديقة بيتي الصغيرة، هي الأخرى، ستعود قريباً إلى سابق نضارتها وبهجتها وتالقها. الحدائق مثل المشاعر والأحاسيس التي كنا نظنّ أنها ماتت، تعود إلى الحياة لأن بذورها تظل حيّة، وتنهض من سباتها حين تواتيها الظروف، وسعينا نحن إلى ايقاظها. لكن خلايا الذاكرة ليست بذوراً. إنها تضمر وتموت. فمن سيعيد إلى ما مات من خلايا الذاكرة الحياة، ومتى؟

لندن 22 مارس 2024

شاهد أيضاً

حكايتان (2)

زكريا العنقودي   1-رحم المنامات !!   لم يعش سوى لحظات..لكن بكاه الجميع ، وحين …