منصة الصباح

جرثومة صغيرة توقف العالم

التسونامي الجبّار

بقلم /محمد الهادي الجزيري

ألم يحن الوقت بعد ليراجع الإنسان مسيرته الطويلة، مرّة واحدة ونهائيّة، بعد أن سيطر على كلّ شيء سوى جشعه ونهمه؟ ألم يحن الوقت بعد لينظر الإنسان في مرآة الحقيقة ويدقّق في آلاف السنوات الّتي عاشها فوق هذه الأرض؟
تكوّمت الجثث بجانب الجثث، ولم يفهم بعد أنّ الفناء سيظلّ دائما بطلَ كلّ الحروب والصراعات، على الإنسان أن يسرع فقدره عنيف ومتعجرف، يرنو يرنو إلى موت نسله ومحو ذاكرته، بل محو آثاره وذكره من على وجه الأرض ..
كتبتُ على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك منذ أيّام قليلة: أيقظوني.. إنّي أرى العالم يموت..
فالانجاز البشري أرقبه يتلاشى ويضمحل ..ولا من مجيب ..يا الله ثّمة من يعبث بخلقك على مرأى منك .. فانتصر لملايين الناس المشرئبة تجاهك ..يا الله لا بد منك في هذه اللحظات الحاسمة، كم تعبت البشرية طوال قرون مظلمة لكي تصل إلى المأساة الفاجعة.. فهل تستحقّ هذا ..؟..
أمّا أنا فتفاصيل يومي في الحظر الصحي..فتبدأ بفتح عينيّ والتلفزة معا وفي وقت واحد ..ثمّ وقد أخذت جرعة إخبارية ..آخذ فطوري المتكوّن من أي شيء لأقاوم وأصمد فلقد فقدت الرغبة في كلّ الأشياء والأكلات من فرط اهتمامي بما يحدث للبشريّة في مُجابهتها لجائحة كورونا..وكي أتناول دوائي ..فأنا أتماثل للشفاء من جلطة دماغية حلّت بي منذ أربعة أعوام ..، ثمّ أميل إلى الأنترنات لألتهم سيلا من الأخبار والشائعات والكلام الفارغ ..، وأقوم ببعض الحركات الرياضية لأكون جاهزا للتنزّه حين تنزاح كورونا من بلادي تونس الحبيبة..ومن تراب كل وطن وحمى .. ريثما تنقشع هذه اللقيطة اللعينة من طرقات وشوارع وأزقة تعوّدت على مروري بها ..والأكيد أنّها اشتاقت لي كما اشتقت لها..، ثمّ ألاعب القطة الممنوعة من الخروج إلى سطح البيت ..( لا نعرف ..فقد تعود بجولتها بجرثومة كورونا مثلا ..) مظلومة هي وكم في هذا السجن العالمي من مظلومين .. ، على كلّ ألاعبها بحبل أجرّه أمامها وتتعلّق به ..حتّى نتعب أنا وهي ..فأتركها تنام وآوي إلى مكاني قبالة التلفزة ..لآخذ جرعات من اليأس ووصفات من الحزن وأعدادا إضافية لجثث كانت مثلي متوهجة بالحياة ..نابضة في شوارع الدنيا ..جثث لها مشاريعها وآمالها وأحلامها ..فجأة هوى كلّ شيء ..كأنّه فيلم أمريكي متعجرف وعنيف ..، خلاصة القول ..أبقى هكذا مسمّرا أمام شلال الأخبار وقد أغفو ..وإن حان وقت نومي ..آخذ الدواء لكي لا تغضب ” سعيدة ” وآخذ معه منحدر الكوابيس ..فأرى العالم يموووووووووووووت …
لم أفكّر في كتابة قصيدة عن الذي يحدث في العالم ..فما يحدث فوق الشعر ..يا قوم إنّه تسونامي جبّار وكارثيّ واستثنائي ..يتقدّم نحو الحياة لمحوها وطمسها ..فماذا أكتب عنه؟ أستحي من الكتابة والقراءة والتحليل ..ولا أعتقد أنّ الكتابة يمكنها أن تتجاوز سحرَ واقعنا والمشاهد الّتي يبثّها لنا التلفاز.. فقد أوشكنا على نهايتنا المرعبة..، ولن تفعل أيّة قصيدة مهما كانت عظيمة واستثنائية ..لن تفعل شيئا ولن تنقذ هذا الصرح العظيم المتهاوي ..وليس كلاما مجازيا ..إنّه يتهاوى كلّ لحظة ..ويفنى إنسان مدهش ومبدع وفنّان في كلّ ثانية ..، يصمت وإلى الأبد هذا الكائن الرهيب/ البديع ..هذا الذي فعل ما يريد ..فعل ما لا يمكن تصديقه ..سيطر على كلّ شيء ..مشى على الماء ..طار أعلى من كلّ طير..اكتشف الدواء لكلّ داء ..تناسل وتناسل وتناسل وتوّزع في جهات الأرض ..متحديا جبالها وغاباتها وفجاجها ..وغاص عميقا في أنهارها وبركها وبحارها ..وفعل الأفاعيل ..ليقف اليوم مشدوها أمام جرثومة لا مرئية تفتك به دون رحمة..، لا حلّ إلاّ بالأمل والإيمان بالغيب والوثوق بجيش العلماء المنكبّ في مخابر العالم ..لينقذ العالم…

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …