ترجمته إلى الانجليزية “هيلين موريسون”
ترجمه عبدالسلام الغرياني عن صحيفة WSJ
يوجِّه آلان كوربين، المؤرّخ الفرنسي، وأحد أعلام تاريخ الحواس والمجتمع، نظره الفاحص نحو موضوع طالما غُفل عنه في الدراسات التاريخية: الرّاحة. في كتابه “تاريخٌ للرّاحة”، يستند المؤلف إلى بصيرته في تفكيك خفايا الحياة اليومية في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ليتبع مسار التّحولات الثقافية والاقتصادية والأخلاقية التي صبغت تصورات الغرب عن الرّاحة من عصر التنوير إلى العصر الحديث. ليس هذا الكتاب سردًا لتاريخ الفراغ فحسب، بل هو غوص في تردد البشرية بين اعتبار الرّاحة ضرورةً واتهامها بالفُضول.
يدافع كوربين عن أن الرّاحة بناء متحرّك، تتشكل بفعل الأنماط الاجتماعية المتلونة وأساليب العمل والتقدم الصناعي. ويهدم ببصيرته الأفكار السائدة بكشفه كيف تحوّلت الرّاحة إلى سلعة ودواء وقيمة أخلاقية على مر العصور. يمتد الكتاب من أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم، مسلطا الضوء على محطات كبيرة مثل الثورة الصناعية التي أعادت صياغة حياة العامل، وظهور ثقافة الترفيه في القرن التاسع عشر.
الأبواب الأساسية
من إيقاع الحرث إلى دقّات المصنع: ارتبطت الرّاحة في العصور ما قبل الصناعة بدوران الفصول والنهار. فلما أتت الصناعة، فُرضت جداول صارمة قطعت الزمن إلى عمل واستراحة، وأشعلت حركات العمال التي ناضلت لتنظيم الساعات والعطل.
الأخلاق والرَّاحة: يكشف كوربين عن التناقض بين نظرة الأخلاق إلى الرَّاحة كمعصية (من فضائل العمل البروتستانتية) وكنعمة لصحة البدن. فقد حددت الشرائع الدينية، مثل السبت، أوقات الرَّاحة، بينما اختلف فلاسفة التنوير في مكانتها في المجتمع.
الفوارق الاجتماعية: لم تكن الرَّاحة متساوية؛ فالأغنياء تمَتعوا بالفراغ، بينما حارب الفقراء لنيل قليل من الرَّاحة. وقد زادت أعباء البيوت على النساء، فكشف ذلك عن ظلم الأنظم لهن.
الرَّاحة كدواء: في القرن التاسع عشر، صارت الرَّاحة علاجًا لأمراض نفسيّة وجسدية، فانتشرت المصحات ومناطق الاستجمام حيث غدت الرَّاحة سلعة تباع.
العطل والحداثة: تمثل تعميم الفراغ، بظهور العطل المدفوعة والسياحة، في تَحول الرَّاحة إلى حق للجميع وركن من أركان الاقتصاد.
الطريقة
يستخدم كوربين مناهج متنوعة، فيستقي من المذكرات الشخصية والكتب الطبية والأدب والقوانين لبناء صورة العقول القديمة. ويدخل في سرده لمسات حسية — كسكينة الطبيعة — في نسيج الرّاحة الاجتماعية، مستحضرًا أعماله السابقة في تاريخ المشاعر.
نال الكتاب ثناء لعمقه وسهولته، وأثار جدلًا حول تغيّر مفهوم الرّاحة بمرور الزمن. وإن انحازت دراسته إلى أوروبا، فإن رؤاه تخاطب العالم كله، خصوصًا في زمن الإرهاق والصراع بين العمل والحياة. يؤكد تحليل كوربين أن الرّاحة مزيّة للأقلّيات، وميدان لنضال المظلومين.
العبر الحديثة
في زمن الهرولة نحو الإنجاز، يذكرنا تاريخ الرّاحة بأنها ليست طبيعة ثابتة. بربطها بتحولها إلى سلعة وغزو التقنية لحياتنا، يدعونا إلى التفكر في إعادة الروح إلى الوقفات التي تجعلنا أشباحًا آلية.
“تاريخ موجز للرّاحة” وثيقة تشهد على تعقد ماضي البشر مع الرّاحة، تحرّض القارئ على إعادة تقدير قيمتها في عالم مفتون بالسرعة. ينير علم كوربين سبيلنا لمستقبل تصبح فيه الرّاحة — ليست ترفًا — بل حقًا مكفولًا لكل نفس.