سينــــــما
رمضان سليم
بنفس الطريقة الحيوية المليئة بالاندفاع والتلقائية والشغف بالجديد وعشق السينما يكتب الناقد صلاح هاشم كتابه المتميز “تخليص الابريز في سينما باريس”، ورغم سنواته العديدة التي قضاها بباريس صحفيا ومتابعا للسينما إلا أن الكتب صلاح هاشم يظل دائما في أوج تعلقه بالاكتشاف والوقوف أمام كل مختلف وكأنه يتعرف على السينما لأول وهلة ، إن صلاح هاشم يرتبط بالسينما ارتباط الطفل بأمه، ولست أدري أهذا من السلبيات أو الإيجابيات لكنه أمر واضح ملموس يكشف عنه هذا الكتاب الصادر عن العلاقات الثقافية الخارجية في مصر، ولقد كشف عن هذا المعنى أيضا كتابه السابق حول «السينما المستقلة وكتابة الأسبق «السينما العربية خارج الحدود، وربما أقول أيضا كل باقي الكتابات السينمائية للمؤلف هناك تلقائية واضحة.
ربما كان هذا الأمر الذي ذكرناه مرتبطا بالصحافة اليومية والأسبوعية لكن الأمر يمكن ان يرى بطريقة أخرى، إن الناقد صلاح هاشم يلامس الأفلام من منطق العاطفة والتفاعل الوجداني وليس العقلي، ولا أدري هل هذا أيضا من باب السلبيات أم الإيجابيات فمهما كانت النتائج يمكن القول بأن الكتابة العاطفية هي أكثر تواصلا وتفاعلا ، وهي تشد القارئ إليها عندما تتعامل مع الأفلام بدون تدبير أو تخطيط مسبق بل يمكن القول بأن الفيلم هو الذي يأتي ولا يكاد الناقد يذهب إليه.
في بداية الكتاب نجد إهداء لكل من هنري لانجلوا مؤسس السينماتيك الفرنسي وإلى أطفال قلعة الكبش بالقاهرة وإلى دار سينما ايزيس والى الزوجة والأولاد والمعلمة والى الدكتورة فاطمة موسى والكاتب شريف الشوباشي وهكذا يتجه الإهداء إلى بعض ما في الذكريات والتي تشير أيضا إلى المستقبل إلا أنها تبقى محصورة في دائرة التعلق العاطفي بالماضي وهذا شئ طبيعي.
الكتاب يتحدث عن باريس بكل ما فيها من أفلام وحياة سينمائية متجددة حيث أكثر من 183 مليون تذكرة دخول في السنة، وأكثر من 200 فيلم جديد، بالإضافة إلى أحداث واحتفالات ومهرجانات تملأ المشهد الباريسي.
يقول الكاتب: أهذا الكتاب هو رحلة في قلب ، وتحت شمس الأفلام التي شاهدتها، والأحداث التي عشتها، واستكشاف لاهث لأرض ذلك المحيط الفرنسي الهائل وأجوائه وإضافته إلى السينما العالمية وتطورها والتعريف بها فالسينما الفرنسية التي تعلمت في جامعتها المفتوحة “السينماتيك الفرنسي” هي في رأيي أعظم سينما في العالم ليس فقط لأن السينما اختراع فرنسي أو لأنها سينما أفرخت اتجاهات.. بل لأن السينما الفرنسية خلقت أيضا بيئة ومناخا منفتحا على ثقافات السينما، ومهموما بتطوير ذلك الفن والتعريف بأفلامه ومخرجيه، والطريقة التي يتطور بها فن السينما في العالم.
يذكر المؤلف الكثير مما قدمته السينما الفرنسية فهي سفير حضارة وبيئة مؤسسة على قاعدة سينمائية لتطوير الثقافة وهي أيضا مناخ يعبر عن فضول معرفي ثقافي للثقافة والصحافة السينمائية.
وهنا لابد من ربط هذا الكتاب من خلال عنوانه بذلك الكتاب المعرف الذي كتبه الشيخ رفاعة الطهطاوي بعنوان “تخليص الابريز في تلخيص باريز” مستكشفا فيه باريس وثقافتها وتوهج الحياة المدنية التنويرية فيها وهنا يقوم الناقد صلاح هاشم بنفس الدور، إذ يندفع في تلقي متعة اكتشاف بهجة الأفلام والتواصل المعرفي معها وهي أفلام تتخللها أحداث تجعلنا نتعرف على الآخر ونقترب أكثر من إنسانيتنا، وتوظف بفنها وتوهجها السينما كأدة تفكير في مشاكل عصرنا، ومتناقضات مجتمعاتنا الانسانية تحت الشمس يتكون الكتاب من ستة فصول هي كالآتي: السينما الفرنسية، تعريف أولي – أفلام سينمائية – شخصيات وأعلام – الظواهر السينمائية – مهرجانات عالمية – السينما العربية في باريس.
في موضوع أسماه “السينما الفرنسية تعريف أولي” يوجه المؤلف إلى تقديم لمسات وخصائص للفيلم الفرنسي ليقول إنها سينما المخرج المؤلف وليست سينما المنتج إلا في حدود ضيقة ، فهي تمثل رؤية العالم من خلال نظرة المخرج، وهي بالتالي “جماع رؤى ونظرات ” تراكمت عبر تاريخها بواسطة عدد من المبدعين مثل جورج ميليس وروبر بريسون وأبيل جانس وجودار ومارسيل بانيول وغيرهم.
يقول المؤلف أيضا بأن السينما الفرنسية هي إبداع فني وأسلوب حياة وموقف من الانسان والمجتمع وشكل تعبيري عن الهوية الثقافية.
ولقد اختار الكاتب أسلوب المقارنة لإبراز مزايا السينما الفرنسية فهو يقارنها بالسينما الأمريكية التي يقول بأنها لا علاقة لها بالفن بل هي أقرب للصناعة والتجارة والربح.
وبالطبع هناك من يرد على ذلك الزعم، إذ لا تكفي المقارنة بأن تكون أسلوبا للتفضيل ، فالسينما الأمريكية عالمية والسينما الفرنسية محلية أو هي اقل عالمية كما أن السينما الأمريكية يمكن أن توصف أحيانا بأنها سينما مؤلف وفيها كل الأنواع.
يقول الكاتب أيضا بأن السينما الفرنسية تتعامل مع المشاعر وتتواصل مع القلب وهي معنية بالفرد وموضوعها الرئيسي هو الحب فضلا عن ارتباطها مع الفن، ورغم وجود أفلام ذات دلالة وثائقية إلا أن المشترك هو الروائي الخيالي.
ويرد الكاتب على تساؤلات تشير إلى عدم وجود أفلام سياسية منتجة في فرنسا على اعتبار أنها تساؤلات عادية فيقول بأن كل الأفلام الاجتماعية التي تعكس تناقضات اجتماعية هي سياسية إلا أنها تمس في الأساس جوهر العملية الاجتماعية بكل ما فيها من تغييرات وتناقضات وتحولات اجتماعية وسياسية.
ويضيف الكاتب إلى السينما الفرنسية ملمحا جديدا وهو يخص تعلق الأفلام بالحياة وتوهجها من جانب استقراء الضمير الفردي الانساني حيث مشاكل المجتمع والعصر والاقتراب من الأجواء التي نعيش فيها ولا يمنع المؤلف من أن يختار من أقوال الآخرين ما يدعم هذه الفكرة.
لابد من القول بأن الشكل الصحفي الذي قدم فيه الكتاب قد جعله بسيطا وسهلا في القراءة حيث تم اعتماد الألوان الأربعة من أول الكتاب إلى آخره رغم ذلك ليست هناك استفادة كبيرة منها بشكل واضح لأن المادة المكتوبة هي أساس الكتاب بالإضافة إلى الصور الكبيرة والصغيرة والتي تتوزع أحيانا على الصفحة الكاملة أو أكثر من موضع أو بشكل جزئي مع تواجد عناوين جانبية كثيرة.
من ناحية إخراجية فنية هناك شريط في أسفل الكتاب وفي أعلاه بدرجات الأزرق يمتد على جميع الصفحات وعلى رسم يمثل “الكلاكيت” يوجد الرقم المتسلسل للصفحات وعلى الصفحتين من يمين ويسار هناك شريط سينمائي أكبر قليلا على يمين الصفحة ويسار الصفحة المقابلة وهذا التداخل في الأشرطة المرسومة قد أخذ حيزا من الصفحات بحيث يمكن القول بأن الكتاب قد اعتمد على الرسم والصورة فعليا وصارت المادة المكتوبة لا تمثل إلا حيزا محدودا قابلا للقراءة من قبل القارئ العام والمتخصص رغم المبالغة في الزخرفة التي سيطرت على الكتاب فجعلته متميزا لكنه ليس انيقا ويفتقر إلى بعض الجمالية، وهذا الأمر لا ينطبق على الغلاف الامامي الذي جاء مقبولا وفيه شيء من القديم والحديث.
على كل حال يمكن اعتبار الكتاب من النوع المصور الذي لا تصدره دور النشر العربية كثيرا
يستمر المؤلف في تقسيم الفصول المتوالية متعاملا مع مزايا الفيلم الفرنسي وهذا المنحى لا يخفيه الكاتب، فالكتاب مكرس للسينما الفرنسية على اعتبار أنها قد وجدت لتكون مثيرة للجدل ، لتفتح أبواب النقاش أي الابتعاد عن التسلية والاقتراب من المتعة الذهنية.
يركز الكاتب على الاخوين لوميير وجورج ميليس وتأسيس السينماتيك وظهور الموجة الجديدة الأولى ثم الثانية.
في موضوع آخر بعنوان فرنسا تأكل وتشرب سينما ، يعود المؤلف إلى ذكر بعض أعلام السينما من ممثلين ومخرجين كما يستخلص إشارات لبعض الأفراد من الكتاب في العالم لدعم فكرته حول طبيعة الحياة الفرنسية أولا ثم مميزات هذه السينما ثانيا، ومما يقوله المؤلف، اعتقد أن العالم يمكن أن يكون أحسن وأفضل لو أن كل الناس شاهدت ثلاثة أفلام فرنسية عظيمة ، فيلم زوجة الخباز ، فيلم أطفال الجنة، فيلم القواعد.
في فصل آخر يتوسع المؤلف في استعراض المواهب الفرنسية على الشاشة السينمائية من ممثلين من أجيال مختلفة، مثل جان بول بلمندو والآن ديلون وبريجيت باردو وجان مورو وغيرهم ومن المخرجين من الجيل الذي التحق بهوليوود.
ومن سمات وخصائص الكتابة عند المؤلف أن المقدمة بالنسبة إليه تشكل مدخلا مطولا يكاد يساوي في حجمه الموضوع الرئيسي وهذا ما انطبق على هذا الموضوع : ماريوس وجانيت على شط بحر الهوى، الذي تناول فيه ثلاثة أفلام فرنسية عرضت في مهرجان الإسكندرية في دورته رقم 14 وهذه الأفلام هي حياة ملائكة لايريك زنكار ، حياة يسوع لدومون برونو وماريوس وجانيت لروبير جيديجان.
وفي موضوع لاحق يقدم الكاتب قائمة بأفضل عشرة أفلام في العالم وقائمة لأهم الأفلام الفرنسية الناجحة حيث نلاحظ أن من بينها أفلاما مشتركة الإنتاج مع ألمانيا وفرنسا، وبها أيضا أفلام قصيرة، وقد حظي المخرج جان رينوار بأكبر عدد من الأفلام يليه رينيه كلير وجان فيدو، وروبير بريسون وآلان رينيه، وغودار وتروفو.
وبالطبع لا يذكر المؤلف المصدر الذي اعتمد عليه أو نقل عنه هذه الاختيارات، والتي ربما كانت مختلفة بطريقة أو بأخرى عن الأصل والسبب يرجع إلى أن تسمية “أفضل الأفلام” صارت عامة وغير محتكرة من قبل شخص ما أو جهة معينة ثقافية أو إعلامية.
الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان: أفلام سينمائية، وهو يشمل قراءات متنوعة في أفلام فرنسية، ومن العناوين التي يمكن ذكرها نشير إلى قراءات مثل: فيلم (في نخب حبنا) لموريس بيالا وفيلم (موجة جديدة لجان لوك غودار وفيلم (عاشت للحياة) لكلود ليلوش وفيلم (امرأة في الجوار) لفرانسوا تروفو ـ وفيلم “بعيدا” لاندريه تيشينيه وفيلم “سينماتون” لجيرار كوران وفيلم “سنغال صغيرة” لرشيد أبو شارب وفيلم “الكراهية” لماتيو كاوغيتس وفيلم “مصير اميلى بولان” لبيير جوانزا وفيلم “11 سبتمبر” الذي أسهم فيه جزئيا المخرج يوسف شاهين.
يقدم الكاتب في قراءته الأولى رسما لشخصية المخرج الفرنسي “موريس بيالا”، وهو من المخرجين الذين يبتعد الجمهور عن أفلامهم وكذلك النقاد، لأنه مخرج أسود المزاج، متشائم، لا يهتم كثيرا بعوامل الجذب، بل تحتوى أفلامه على نقاشات وحوارات مطولة، ينقل منها الكاتب بعض الأجزاء، كما في فيلم (في نخب حبنا)، والحقيقة أن ما كتبه المؤلف هو قراءة حول المخرج من خلال فيلم واحد وأن مجمل الإضافات هي لخدمة التطرق إلى فيلم معين دون غيره.
ينطبق هذا الأسلوب على باقي الأفلام والمخرجين، فالحديث عن المخرج هو مقدمة للحديث عن فيلم جديد له.
ولم تنل كل الأفلام المختارة الإعجاب الكامل، ولا يعنى ذلك أن تكون كل الأفلام جيدة، لأنها فرنسية فقط، فهناك نقد سلبي لفيلم (بعيدا) للمخرج اندريه تيشينيه، وخصوصا من حيث النظرة التقليدية للشرق بمعايير استشراقية قديمة ونمطية. كما أن هناك نقدا سلبيا للفيلم الذي شارك به المخرج يوسف شاهين ضمن الفيلم المشترك (11 سبتمبر).
الفصل الثالث ربما كان من أفضل فصول الكتاب، لأن الكاتب يتحدث بأسلوب مختصر عن بعض المخرجين الفرنسيين وبطرق مختلفة، والمبدأ دائما هو الحديث عن فيلم ما والمدخل هو الحديث عن المخرج، بحيث يصعب الفصل بين الأطراف الثلاثة، الفيلم والمخرج والكاتب الذي لا يخفى إعجابه بما اختاره موضوعا للكتابة.
على سبيل المثال هناك حديث حول المخرج (بول جريمو) وفيلمه (الملك والطائر) وهو أول فيلم فرنسي للرسوم المتحركة.
وهناك أيضا موضوعات صيغت في شكل حوارات،ومن ذلك حوار موسع مع المخرج (جاك دومي) وحوار آخر مع المخرج المنظر (جان ميترى) ثم حوار مع المخرج كوستا غافراس، وحوار مع المخرج فرانسوا تروفو قبل رحيله بوقت قصير ، وبالطبع ربما لا تكون كل الحوارات قد أجراها الكاتب وإنما ترجمها أو البعض منها، إلا أنها تدخل جميعها في سياق الحديث عن السينما الفرنسية والحديث عن بعض المخرجين فيها.
لابد لنا هنا من رصد مسألة مهمة، وهى أن الموضوعات المكتوبة قد أعدت في سنوات سابقة ونشرت في الصحف والمجلات ، وقد عمل المؤلف على ترتيبها وكذلك تصنيفها في أوضح وأقرب صورة ممكنة، فالكتاب هو تجميع لمقالات بدون الإشارة إلى تواريخ النشر، ولكن هذا التجميع سار في اتجاه معين، واختيار محدد، خدم الفكرة الرئيسية وهى تقدير السينما الفرنسية وتقدير أهم أعلامها.
في الفصل الرابع هناك عرض لبعض الظواهر السينمائية، ومنها الحديث عن السينماتيك الفرنسي، ثم تكريم يوسف شاهين في فرنسا بإصدار عدد عنه في مجلة “كراسات سينمائية”.
أيضا كان لابد من التطرق إلى فيلم ايليا سيلمان (يد الهية) الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان كان السينمائي، ويشمل الحديث عن الفيلم حوارا صحفيا سينمائيا مع المخرج.
وتكملة للاهتمام بالقضية الفلسطينية، يتحدث الكاتب عن أفلام فلسطينية عرضت في قاعة (حى سان ميشيل) وتظاهرة أخرى حول السينما المعاصرة في قاعة اللوفر، وتظاهرات مختلفة ، بعضها عربي مثل تظاهرة الفيلم المصري وغيرها.
الفصل الخامس يتطرق إلى بعض المهرجانات داخل فرنسا، من خلال الحديث عن فيلم معين، مثل الحديث عن فيلم “غزوات بربرية” المعروض في مهرجان كان، وكذلك أفلام مثل (دوقفيل) والفيلم المغربي (العيون الجافة) ومن الموضوعات المتميزة، ما يشبه الشهادة حول مشاركة المؤلف في مسابقة لجنة تحكيم (أفلام الكاميرا الذهبية) لدورة مهرجان كان رقم “43”.