منصة الصباح

بلا فرامل  تهوي في منحدر

محمد الهادي الجزيري

 

لم أتفطن لمرور الزمن ..لانفلاته كالماء من بين الأصابع ..، لم أعر الأمر انتباها فقد كانت بنيّة تونسية تحاول كتابة الشعر ..وفجأة تواجدت أمام عينيّ سيدة محترمة تمتطي منابر شعرية في كلّ مكان ..وتصدر الكتاب تلو الكتاب ..، فطلبت نصيبي منها كصديق قديم فما كان منها إلا أن ناولتني مجموعة ” بلا فرامل تهوي في منحدر ” ..وها إنّي أخوض في أقاصيها وأقطف من ثمارها اليانعات ..، وللتذكير نقرأ اليوم لفاطمة كرومي شاعرة تونسية:

تفتتح قولها الشعريّ بالترجّي والتمنّي ففي القصيدة الأولى ترجو كطفلة بريئة من الله أشياء كثيرة وليست متاحة لها ، إنّها الرغبة الجياشة في الفعل بحريّة مطلقة ..لا أحد يوقفها ولا شيء يمنعها من الحبّ وإصابة المحبوب ..، هذا ما يحلم به الشعراء لكنّ القلة منهم يقولون ما يفعلون ..وها فاطمة كرومة تضعه حجر الأساس لمدينة يسوسها الشعر ويحرسها العشق ..لنستمع إليها وهي تشدو :

” ترجّيته خلقي ساحرة طيبة

أحلى ساحرة في الدنيا

أجوس ليل حيّنا الدامس طيرانا

كلّ من يلمحني أذيب حواسه

أهبه مدد الخيال ”

تتوغّل بنا بذكاء تامّ لتدين وطنا نحبّه ولكنه مثلما قال أحدهم ” جثة في حالة وفاة ” ، في قصيدة بعنوان ” أصوات غارقة “..، تومأ إلى خطر ما ..ولا تصرّح بالألم ولا بالذعر..، تشير إلى خطب كبير يعتمل في غياهب الحمى ..:

” رائحة المدن

رائحة حديد محترق

منبّهات سيارات تَدعس معدتي

بنايات هامدة على جثة أرض تتقيّأ

مرآب كبير لمحركات عاطلة

أكنّي ذلك وطنا أتخيّله آمنا ”

في هذا المقطع أحدس بقوّة أنّ الشاعرة ليست فقيرة في اللغة لتكتب ” أتخيّله ” ، فهي أدرى منّا بحالة الوطن..لكنّها لم ترد أن تقع في صدام أو نقاش مع أحد..، فالنفوس ضيقة هذه الفترة ورحابة الصدور بعيدة المنال ..

في نصّ قصير بعنوان ” اللا موصوف ” نكون قد تبعنا الشاعرة إلى حيث تخفي الشعر والإبداع والرهافة والإحساس النبيل ..، كلّ واحد منّا يتصوّر أنّه المحبوب السريّ لهذه الطفلة التي تكتب الشعر بكلّها ..بتفاصيل وجودها..ببصمة ذاتها ..، في هذه القصيدة الطافحة بالإيماءات الجميلة ..، تبدو فاطمة كرومة كأنّها عابرة سبيل في سوق العطارين المعروف بأعشابه الطبية ووصفاته العلاجية ..لكنّها تباغت القارئ بموضوع حبّ ..:

” في سوق العطّارين يُباع كلّ شيء

منثورا ومعبأ في قواريرَ

لَبن العصفور ودم الغزال

يُلف هباء في قراطيس مخطوطة بطلسم غير مرئي

بحبر غير سرّيّ

لكنّي لم أعثر على صوتك

محفوظا في دموع أشجار اللوز

مطويّا في ورق الذهب.

أغمر المكان بالأسئلة

بوصفك اللانهائي ،

نساء يحدّقن فيّ

ويقطعن آذانهنّ ”

أعتقد أنّ الشاعرة ما إن تتوغّل أكثر في مجموعتها الشعرية ..تزداد خبرة وقدرة على طرح المواضيع ..، فمثلا نجدها في قصيدة ” خطأ فادح في التقدير ” تعرض موضوعا جديدا علينا ..ألا وهو موضوع الرضا والقناعة بما منحتها الحياة السخية من مكرومات وهدايا ونِعَمٍ ..، وتصف لنا الموقف كلما طالبت أو فكّرت في المطالبة ..، تأخذها الحياة كطفلة بريئة وتلقنها درس الرضا بالموجود والتطلّع إلى المنشود ..وهذا هو المطلوب من كلّ إنسان سليم :

” في كلّ مرّة أردّد فيها :

هذه هي الحياة التي صلّيت لأجلها.

تصوّب الحياة خطئي بسرعة

ممسكة وجهي برفق

مثل معلّمة تعلّمني

تأمرني : ” اِلتفتي

انظري هناك بعيدا ”

أتضاءل بمجرّد إشارتها إلى حجمي الطبيعي

شاكرة إيّاها على كلّ ما حدث ”

 

هذا قليل من كثير لشاعرة واظبت في مسيرتها وافتكّت مكانتها في الساحة التونسية والعربية وشخصيا تابعت خطوات هذه السيدة ..وأعتقد أنّها نضجت تماما وآن لها أن تنتشر مستقبلا وأن تعانق القراء العرب ..كما فعلت وتفعل في تونس.. …وطنها الذي تتخيّله آمنا …….

شاهد أيضاً

أيام‭ ‬الصحافة‭ ‬ 

  فتحية الجديدي سؤال‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الأهمية‭ ‬وجب‭ ‬طرحه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬لأسباب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ …