براح
بقلم /محمود البوسيفي.
بنهاية القرون الأربعة الأولى بعد ظهور الإسلام في بلاد العرب الذين اعتنقوا الدين الجديد وبشروا به فتحاً معظم بلاد العالم القديمة.. انتهت الاندفاعة الهائلة التي أعطت للبشرية حضارة مازالت شواهدها ماثلة حتى الآن.
كان الانفتاح العربي الإسلامي على آخر راية ترفرف على مدى المساحة التي وصلتها فيالق الفتح وتم التعرف مباشرة على خزائن المعرفة الإنسانية لدى بلاد الإغريق والهند والسند والصين الخ، دون أية حساسيات تفرضها غلبة القوة أو الشعور بالانبهار المتبادل.
تراصفت علوم الفقه والطب والرياضة والهندسة والفلك والترجمة والفلسفة والتاريخ والأدب. ولم يعد العرب مجرد بدو يقرضون الشعر ويعيشون حياة الكفاف في بادية وثنية قاحلة.. وظهرت معارف وعلوم عززت حضارة عظيمة اعترف الآخر بمشروعية سيادتها على مساحة تمتد من الهند وحدود الصين شرقاً إلى شبه الجزيرة الأيبيرية غرباً ، وإلى حدود فيينا شمالاً وشرق ووسط إفريقيا جنوباً ، وهو ما أكده التمازج الرائع بين العرب الفاتحين والشعوب في تلك المناطق.
ولابد لنا ونحن نسعى لاستنطاق أسباب التخلف الذى يرسف فيه الوطن العربي أن نعيد قراءة المشهد ، وصولاً إلى تلمس تلك الأسباب وفك شفرة امتدادها التاريخي لأكثر
من عشرة قرون.
لابد من القول أولاً إن الإسلام لم ينتشر في دوائر فارغة، فالعرب بقوة العقيدة وسماحتها دخلوا إلى بلاد ذات حضارات كبرى ، وهو ما ساعد كثيراً على تأمين موجبات الاحترام المتبادل وبناء مفاصل الثقة، وهو الذى أسهم إلى حد كبير في اعتناق شبه جماعى للإسلام وتضافر الهمم لبناء الحضارة العربية الإسلامية.
كان الاعتراف بالآخر والانفتاح عليه أحد أهم الأسباب المؤسسة لتلك الحضارة التي أنتجت مفردات كثير من العلوم الطبيعية والإنسانية.. وجاء هذا التوجه انسجاماً . مع منظومة القيم الأخلاقية التي بشر بها الإسلام وألزم بها معتنقيه
وشكلت تلك المنظومة ما يشبه القانون الذى يحكم مجمل العلاقات في الدولة الإسلامية ، منذ تبرعمها الجنينى فى دولة الخلفاء الراشدين إلى امتداداتها في الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة الفاطمية وفى الأندلس، وصولاً إلى كيانات الحمدانيين والطولونيين في حلب ومصر… قبل أن تترهل الإرادات وتتكلس وتسترخي وتعمد إلى إغلاق الأبواب والنوافذ أمام الاجتهاد ، فحدث الاختناق بفعل العطانة التي
تسببها الأبواب الموصدة.
آخر أنفاس القرون الأربعة ظهرت لاحقاً بمنزلة صحوة الموت ” ابن خلدون، صلاح الدين الأيوبي، ابن جبير .. مثلاً ” ليسدل الستار على حضارة ركلت عنوة منظومتها القيمية وتعالت بالتالي عن الآخر( او انسحقت أمامه) لتفسح المجال أمام كتائب من المشعوذين والجهلة الذين أحكموا وثاق الأمة وتخدير إرادتها ودفعها إلى هوة الغيبوبة.
استسلم العرب الذين عرفوا برفض الظلم للطغاة من الخارج ومن الداخل، وتأبطوا الجهل وهم الذين دعوا إلى طلب العلم ولو كان في الصين… تحولوا بالتدجين الذي يفرضه عوز القيم والانغلاق عن الآخر إلى قطعان من الجبناء الكسالى أضرموا النار في تاريخهم ولاذوا بالكهوف والجحور كأن وباء أصابهم بغتة.
استعادة منظومة القيم يوفر مناخاً وافراً للثقة ويحفز الإبداع ، وهو ما يجعل مسألة الاعتراف على قدم المساواة بالآخر دعوة للتضافر تؤكد شواهد التاريخ وتحديداً في مثل الحضارة الإسلامية أنه ينجح عادة في تأمين اشتراطات البناء الحضارى ، وتشكيله لمجتمع الوحدة والتنوع القادر على الحياة في مواجهة احتدامات الواقع والمحيط.
لا يحتاج المرء في مقالة صحفية إلى سرد الاستشهادات لتأكيد أن العرب خسروا عندما جمدوا العمل بمنظومة القيم التي جاء بها الإسلام في الحرية والعمل والعلم
والعدالة والإخاء والأثرة والكرامة والتسامح ؛ ولذلك فقدوا ثقتهم في الآخر وأوقفوا التعامل معه.
ويمكن رصد تأكل أطراف الدولة العربية الإسلامية بتاكل أطراف تلك المنظومة وتفتتها بتفتت رباط ..القيم وتفككها بمناوأة الآخر.
لا يحتاج المرء في مقالة صحفية إلى إحالات مرجعية فى الخصوص، فالواقع أقوى وشديد السطوة، إلى درجة لم يعد معها ممكنا تداول أسباب التخلف فى غياب استعادة القدرة على ضرورة الحوار وحق الاختلاف، وفق منظومة القيم، وهى القواعد المفصلية في مناوأة التخلف. . لا مناص للأمة من العودة إلى مقاعد الدرس وتهجى المسأله.