حــوار ..حنان علي كابو
تؤثث الكاتبة والمترجمة ليلى النيهوم سيرتها الإبداعية بإضافة جديدة في عالم الفن التشكيلي ،بمعرض فردي أول أقيم ببنغازي بمركز وهبي البوري الذي يحتضن كل الفاعليات الثقافية التي ينظمها قسم البرامج والأنشطة الثقافية في محاولة مجدية لتوثيق الحالة الثقافية الراهنة ،بمشاركة خمس وعشرين لوحة فنية ،أمتلكت خصوصيتها ،وتدرجت ألوانها وتشبعت حد الأمتلاء ، الورود تعلو الحمرة وجنتيها ، الأزرق يطفو طاغيا ،يرمز لبراحه ،لأتساع المدى ورحابته ،أطل «العقيب «بأناقته من الذاكرة وهو مفرط في ألوانه ،ووتصدر « القعمول « لوحته بعنفوان يشطره الحنين ، فلايمكن لليد أن تنجز أي شيء جميل لم يستطع القلب حتى الآن الشعور به « كما ورد على لسان رالف والدوإمرسون «أغدقت تشكيلتنا أسرابا من الالوان ،حلقت مأسورة بولع دفين ،بحلم آسر .
بأنطلاقة لاحد لها الرسم عند ليلى منجاة من اللغط والهرج وصعوبة الواقع ،وفي مزاجيته تحييد عن ترهات جمة ، كان اكتشافا للذات في طفولة ، ولكن هل أصبح مفرا ؟؟
تجيب :” ليس هروباً بمعناه الطوباوي وانما نوع من الثيرابي بمعني علاجي ،في الوقت الذي أصبحت الكتابة والشعر بالنسبة لي نوع من اجترار الحزن وإذكاء جذوته كلما هفت . كان الانغماس في لوحة وفي الوانها و مزجها و في الهيمنة على الريشة وجعل انسيابيتها ارادة مني . كنت اغيب عما حولي تمر ساعات احيانا وأنا في عالمها أنسى ان اشرب ماء بل لا احس بالعطش . تتلاشي أشياء تخنقني و تتحول إلى طاقة لونية اعجب لها . الرسم منجاة و هو راحة وهو ابتعاد عن اللغط ولوك الفراغ بدون منتوج و وهو أيضا شغف كبير. متعة ان تنخلق اشياء من ألوان ، أن تستعاد أشياء بألوان”
في زهرة الايريس ،عمق البنفسج جمعت ليلى مابين التجريب وتعميق اللون وتشبيعه حد الفوتوغرافي ذهب بها إلى اماكن اخرى ،فمتى يكون الحنين مدعاة الرسم والغرق في تجليات الالوان ؟
تقول ضيفتي” . حد البنفسج الايريس التي سعيت اليها بين الاعشاب في طفولتي و ميزتها حالما واتاها الظل لتتفتح كانت ملهمتي . تشبيع اللون في اللوحة يأخذ مراحل و طبقات حتى الوصول الى الدرجة اللونية المطلوبة وانحياز اللوحة المباغت للميتاواقعي احاول دائما الهروب منه .
عندما استأنفت الرسم بعد انقطاع طويل منذ الثمانينات لانشغالي في الصحافة والكتابة والترجمة الثقافية بدأت على نسق الانطباعيين ،و كانت ضربات فرشاتي سريعة و واثقة و من ثم و تحت اشراف استاذة رسم كانت تدفعني الى الاتقان والدقة و تشبيع اللون و تطويع الفرشاة وانثناءاتها – رغم مقاومتي – كنت اكرر لها انني اهوى كل ما هو انطباعي والانطباعية نهج يوافقني ،فكانت تجيبني اتقني اولاً و تمكني و من ثم لاحقاً ارسمي على هواك و ستخرجين بطابعكِ الخاص ولعلها اصابت في توجيهي . و لازلت تحت التمرين ولازال الطموح الى ايتاء نسقي الفني الخاص والاشتغال به.
الحنين ايضاً شحذ الرغبة الى استجلاب ذاكرتي في لوحات و عبر الألوان واقلام الرصاص. في صغري وبداياتي كنت أحب الرسم بأقلام الرصاص و كنت احب بشكل مميز رسم البورتريهات / الوجوه و كنت احتفظ بملف لرسوماتي ضاع في الحرب. وايضا اشتغلت الوان الرصاص وبعض المائي والتحبير. لم استعمل الفرشاة والاكريليك الا منذ سنتين مضت وشغفت به و طوعته لفيض ذاكرتي وأمكنتي و الواني التي تختلف وبها صخب متوسطي و شرقي”.
لوحة الزهرة البيضاء «الكالا ليلي «التي تحصلت على تقدير لجنة التحكيم في المعرض الذي أقيم بكاليفورنيا ،مفضلتك الخاصة حدثيني عن تداعيات رسمها ؟
مفضلتي لوحة” الكالا ليلي ” الزهرة البيضاء في قنينة زجاجية و عليها تحصلت على تقدير لجنة التحكيم في معرض “فرزنو” السنوي الكبير بكاليفورنيا في اكتوبر 2019 كانت بها متعة رسم الزجاج و أزعم انني أتقنه و هو شغف سأشتغل عليه كثيراً . شفافيته وانعكاس الضوء عليه وانعكاس الأشياء حسب كثافته و استدارته و زواياه. كما أميل إلى رسم الزهور لأنني اعرف تفاصيلها عن كثب و عن تمحيص من حديقتي و من إلتقاطاتي الماكرو . هي عالم لوني لا يصدق ما ترينه أبيض خالص وهم ففي عروقها و ثناياها الوان والوان.
في طفولتي عندما أنتبهت أمي إلى شغفي بالرسم، وهي رسامة علمتني كيف ألون بدقة بدون أن أخرج من الحدود ،علمتني مزج الألوان . كان الرسم بالنسبة لي في سهولة الكتابة و كنت أرسم كل ما أراه . كان اللون رفيقي أنتبه له في الاقمشة وإختياراتي فيها و قد أشتغلت عليها كثيراً و في الطبيعة وفي السماء في شروقها و غروبها وفي السحاب الذي أعشق بل تنتابني أحيانا لحظات أحس أن لبعض الحروف لون و في كلمات معينة أمازيج ألوان يمكنها أن تشيع فيك البهجة أو ترميكِ من حالق. كنت أذهب الى محلات الطلاء و أقتني مساطر الألوان لمتعة التعرف على اسماءها وهي عالم كبير ومثير، و كنت أحفظ في ذهني الدرجات والاسماء و كانت تخرج و تتمظهر بدون أن أدري في النصوص و في اللوحات . تقول مدرستي أنني أعرف الواني ولا أخشى المزج ولا أسأل كيف ،و أنني أندفع إلى لوحة التمرين وأنهيها بسرعة قبل الاخرين حتى إنها كانت تخفي عني اللوحة القادمة ،فكنت أضع نصب عيني أن أشتغل على لوحة موازية من ذائقتي و لذلك كنت أدرس موضوعتي و أبحث كثير فيما يخصصها، وأرسم عدة تخطيطات وسكتشات حتى أرضى على نسقها ،ولنأخذ مثلاً لوحة العقيب خططت لها ودرست مدخل شارع العقيب و مبنى كاريداكيس – بن هلوم لاحقاً -من ذاكرتي و من صور قديمة و حديثة في الانترنت . في إحدى الصور كانت ثمة دبابة و كان دخان و غبار ولون أصفر يعم الشارع وأنا ذقت ويلات الحرب بشكل مضاعف وفقدت شقيقي الغالي في فوضاها و غلوائها فكان أن اطلقت الألوان تمسح كل أثر لها وتنثر ما يتمناه قلبي لبلادي و مدينتي المنكوبة آنذاك من الوان فرحة بهيجة تشرقط بالحياة”.
وفي سؤالي عن الالوان هل توافق أمزجتنا وتشبعها إلى أي مدى ؟؟
أجابت.. توافق أمزجتنا و هي متقلبة مثلاً ومقبلة احيانا ومترددة و مهزوزة احيانا اخرى . الرسام لا يفطن ايضاً لسيطرة بعضها عليه . اكتشفتْ زائرة لمعرضي غلبة الازرق في لوحاتي اخبرتني ذلك وانتبهت و تساءلت بيني وبين نفسي متى حدث ذلك؟ ثم انتبهت مجدداً انه طغى ايضاً علي بيتي. و لربما تكون للون اخر غلبة لاحقاً . ذائقة الانسان متغيرة و طالما ثمة حراك في الذائقة تتطور اللوحة و تتموج لونياً و كذلك الأشياء التي نرتاح اليها من حولنا.
في لوحة القعمول تستحضرين ليبيا في جيب قلبك الخفي كما وصفتها ، شغف قديم ،خصوصية ليبية بحتة ،ماذا تعني لك ؟
. اثيرتي لوحتي قعمول واسمه العلمي Cynara Cyrenaica و بهذا الاسم عرضته في معرض ” فرزنو ” السنوي الكبير في كليفورنيا بالولايات المتحدة الامريكية 2019اكتوبر اللوحة هذه اشتغلتُ عليها كثيراً و طويلاً ومرت بأطوار عديدة قبل أن تستقر على شكلها النهائي . للقعمول – وهو نوع من الخرشوف البري – مكانة خاصة في قلبي . كنبات متفرد مثير للتأمل اولاً و كمعني حميمي لحياة الدعة، الحياة المتكاملة الأفراد . الأسرة و رحلات الربيع . ذاك المرح و الهواء العليل وأمان الأب و بهجة الأم . ربما هو ليبيا في قلبي كما عرفتها ودسستها في جيب قلبي الخفي بعد أن طالها ما طالها. شغفي به قديم و أول اشتغال لي عليه كان تشكيلاً بعجينة خاصة بالحلويات . قمت بتشريحه فصاً فصاً وشوكة شوكة حتى تشكل مكتمل المعنى. في لوحتي قمت بالمثل . تمت الدراسة من صور فوتوغرافية التقطتها في الوطن و من ذاكرة الذات البصرية اللونية و من فرحة الناس به ربيع 2019 التي عمت الإنترنت . ولعله كان موسمه الأفضل منذ ربيعات الستينيات الخصبة من القرن الماضي. رتبت مواقعه و نسقه الفني على اللوحة و كنت أضع اللون و أغمض عيني و أسرح ثم اعود لأعطيه درجة لونية أكثر إشراقاً كما عرفته و نحن نركض في حقوله بحثاً عن اليانع منه وبحثاً عن السليم الخالي من الآفات . القعمول وجدان ليبي خاص بإفراط. تشتهر به المنطقة الشرقية في ليبيا . يثمر في الربيع و يؤكل نيئاً و يدخل في العديد من الأكلات المحلية . وقد بحثت طويلاً حتى عرفت الأسم العلمي له. محلياً له اسماء اخرى غير القعمول. و بالبحث وجدت انه ينبت في كريت ايضاً و ليس غريباً أن يكون ذهب الى هناك او ان امتدادات ارضية قديمة انفصلت بعوامل تصدعات القشرة الأرضية . كما ينبت ايضاً في بعض نواحي المغرب وفقاً لبعض المصادر . يحلو لي أن اتخيل أن عاشق له استزراعه هناك.. ”
تستهويك التفاصيل ، هل الرسم يفعل ذلك بجدارة ودقة؟
“فعلاً تستهويني التفاصيل و قد تسلب لبي زهرة برية منمنمة على حافة طريق أهبط اليها و كاميرتي لألتقطها أو انعكاس طائر يحوم في السماء على شاشة الأيباد . مرة و نحن على طريق جبلي مرتفع و اسفله طريق ترابي تتمشى بنت و كلب يجري بمرح أمامها في العشب وأذنا أرنب حذرة تراقبهم يهتزان. سكنني المشهد لزمن حتى وجدته يخرج يوما في احدى قلمياتي . التفاصيل مهمة فهي نوع من المعرفة و هي زاد يستفاد منها في الشعر وفي الرواية و في الرسم و في فهم العالم من حولكِ.