منصة الصباح

الفوضى المعقمة بالماء         

الفوضى المعقمة بالماء

     محمود البوسيفي

 

دأبت الإدارات الأمريكية وخاصة بعد تفجيرات نيويورك في 11/ 9/ 2001 على طرح ما يقترب من شكل المبادرات لما تصفه بدمقرطة الشرق الأوسط، والذي يعنى هنا المنطقة العربية بالتحديد، وأطلقت في الخصوص تصريحات تناوب على إلقائها الرؤساء الأمريكان ومستشاريهم للأمن القومي ووزراء دفاعهم وخارجيتهم ونواب الرئيس، مع إسناد متنوع ومحسوب من السفراء والمبعوثين ووسائل الإعلام.

جاءت مبادرة الشرق الأوسط الكبير، متساوقة مع الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 واشتداد قبضة الإرهاب الصهيوني في فلسطين، وكأنها رسالة للعرب بأن من لم يمت بالسيف مات بغيره.

لم تعد المبادرات الأمريكية بعد الفوضى الخلاقة» غامضة أو ضبابية، رغم ضجيج الفضائيات ومطابع الصحف وصخب الميكروفونات، … وحيث لم يعرف عن حكومة أمريكية واحدة

مساندتها لغير الاستبداد والدكتاتورية، والنماذج هنا لا تحصى، فإن الأمر يتعدى الشكل الظاهري ليرحل عميقا في جوهر المسألة، التي لن تتجاوز تجميد الدور الأوروبي تماما في المنطقة إلا بشروط . أمريكية مباشرة وملزمة. واعتماد الأساليب التي تقود في النهاية إلى تنفيذ المشروع القديم لرئيس الوزراء الإسرائيلي رابين (السوق الشرق أوسطية) الذي يتم خلاله تقسيم أسواق العمل في المنطقة، (مصر مثلا .. لإنتاج الكانتالوب والفراولة بدلا من القطن والحبوب وقصب السكر .. السعودية للطاقة والسياحة الدينية.. العراق للطاقة والسياحة الدينية.. ودول للصناعات التحويلية الصغيرة ودول للسياحة وأخرى للايدي العاملة الخ الخ .. على أن يتولى الكيان الصهيوني احتكار إنتاج الصناعات العسكرية وإنتاج البرمجيات المعلوماتية بما يجعله بالتالي القوة الأكثر جدارة بالتوجيه وإدارة شؤون المنطقة وقيادتها.

أمريكا لا تعنيها الديمقراطية بأى قدر خارج حدودها، ومن يقرأ مساهمات نعوم تشومسكي ،البحثية يكتشف مدى ضخامة الدور التخريبي الذي لعبته واشنطن طوال تاريخها ضد الأنظمة المنتخبة، ودعمها اللامحدود للطغاة في جميع القارات.

يروى عن الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خرتشوف المعروف بميله للدعابة، أنه في زيارته الأولى والأخيرة الى بريطانيا وأثناء حفل العشاء الذي اقامته له الملكة اليزابيت في القصر الملكي، قدم له بعد الملكة الأمير فيليب باعتباره زوج الملكة.. رسم ابتسامة ماكرة وسأل المترجم.. ولكن ماذا يصنع بالنهار ..؟

لم يتورع خر تشوف الذي نجح فى الإجهاز على الإرث الستاليني القاتم، عن خلع حذائه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة واستخدامه كأداة للطرق على المنضدة للدلالة على مصير الرأسمالية.. وهو الأمر الذي أثار جدلا واسعا حول سلوك رجل الدولة، ومدى التزامه بما تشترطه المعايير والقيود التي يفرضها الموقع على صاحبه، والتي تحولت لاحقا إلى أطواق تحدد حركته بعيدا عن الناس..

وكانت عمليات تهشيم تلك القيود و اختراق أسوارها، استثناءات نادرة ومثيرة على الدوام. ولم يفلح أحد من أبطال تلك الاختراقات من تجنب العقاب الأمريكي.

شرع خرتشوف الذي نشأ في بيئة عمالية فقيرة، ووصل عبر رحلة قاسية إلى موقع المسؤول الأول والوحيد تقريبا عن أمبرطورية شاسعة، شرع في فتح نوافذ موصدة منذ عقود، وأضرم النار في صناعة الخوف والأضرحة.. وأعلن وهو يوقد المشاعل في أقبية العتمة، أن الرفيق الوحيد الذي كان حقيقيا في عهد ستالين هو الخوف.. الذي كان رفيقا للجميع.. وقال أن الخوف لا ينتج إلا الخوف ولا يقود إلا للذل والدونية والامتثال ..المرضي وكافة الصغائر التي يحفل بها قاموس القهر والاستبداد.

أفصح الرجل وهو يعيد صياغة المفاهيم، والفصل بين الثابت والمتحول حيث العقائد ثابتة والسياسة متحركة وفقا لترمومتر المصالح التي تحددها علاقات الانتاج والتراكم والتسويق.. أفصح

عن النية في إعادة الاعتبار لحقوق الأنسان والبدء في عملية إصلاح شامل تطال المفاصل التي توهم البعض بقداستها.

وقال: إن الأصلاحات ستحتاج إلى عشرين عاما من العمل الجاد. للانتقال إلى ضفاف التقدم العصري وبناء مجتمع الوفرة والتحرر من ربقة الاحتكار بأشكاله كافة ومن الاستعباد.

لم تغفر أمريكا للرجل الذي نصب صواريخه قبالة سواحلها الشرقية، ومواجهته الباهرة لآلة الدعاية الأمريكية العملاقة والتي تصور المواطن السوفياتي متجهما، متعجرفا، مكتئبا، شديد الفظاظة ولا يفكر إلا في القتل انسجاما مع روح الشر التي تتملكه.. ولذلك سارعت فورا بالاعتراف بالتغيير السريع الذي أطاحت به ترویکا( بریجنیف بود غورني، كوسيغين،) وهي تتهمه بالتحريفية ومالا يحصى من مفردات تروق عادة للانقلابيين وتخريجاتهم اللفظية. وتم إرسال سيد الكرملين الذي كان يداعب حراس مداخله ويبعث بالحلوى لأطفالهم، والأشرطة الملونة لزوجاتهم وبناتهم إلى بيت بعيد معدوم الاتصالات مع الآخرين، ليموت حنقا وقرفا من عودة الستائر الثقيلة وحزمة الأقفال والمزاليج، حيث يسود مناخ الذعر والتوجس.. فيما عادت الصحف والإذاعات والنشرات الحزبية للإدعاء بأن ما يحدث في الاتحاد السوفياتي هو الأفضل والأجمل والأبهى والأكبر والأعمق .. الخ الخ من صيغ أفعال التفضيل التي لا تتجاوز اللفظ في أفضل الأحوال.

كانت عمليات الإصلاح قد توقفت تماما، وارتفع مؤشر الإنفاق مجددا على التسليح والأمن والفضاء وهو ما انعكس سلبا على برامج تحقيق الوفرة وتحرير الحاجات.. عادت الآلة القائمة لمطالبة المواطن بالمزيد من الضرائب والجهد لهدف غير منظور وغير مرئي ويكتفي وهو يصطف في الطوابير الطويلة بازدراد حبات البطاطا والبصل وشتم الرأسمالية وأعوانها .. متلفتا يمنة ويسرة خشية التورط في إتهامه بالتقصير في لعن سنسفيل الأمبريالية وتمجيد فضائل الحزب ونجاحاته !! عاد التجهم الذي رسمته آلة الدعاية الأمريكية للسيطرة على المشهد السوفياتي الذي يلوذ بجدران الردع النووي في صقيع طويل بلا قمح ولا حطب.

خسر الاتحاد السوفياتي معركة البقاء بانتصار الرفيق القديم (الخوف) على التجديد والتجدد.. عاد الرماد الى الوان

شاهد أيضاً

داحس والكرة الليبية

  عبدالرزاق الداهش في إسبانيا هناك نادي ريال مدريد، وريال بيتيس، وريال مايوركا، في إنجلترا …