تلكَ الأغنيةُ…ذلكَ الطير
جمعة ابوكليب
زايد…ناقص
مازال البعضُ منّا، حسب اعتقادي، إلى يوم الناس هذا، يجادلون حول المعنى المقصود من المثل العربي القائل” الطيورُ على أشكالها تقعُ.” وهم فريقان. فريق يرى أن المثل يعني بالوقوع التوقف عن الطيران، والنزول إلى الأرض. فالطير يستحيل أن تقضي أعمارها محلقةً في السموات القريبة والقصية. وبهذا يفسرون المعنى المجازي للمثل، بأن الناس المتعالون عن غيرهم، بسبب غناهم أو علو مناصبهم وقوة سلطانهم ونفوذهم، لابد وأن ينتهي بها المآل يوماً إلى فقدانه. المثل دعوة صريحة إلى التواضع، ونبذ التكبر.
أصحاب الفريق الثاني لا يوافقون على هذا التفسير للمثل. ويعتقدون أن الوقوع يقصد به أن الطيور لا تتوافق ولا تعيش إلا مع أشكالها. فطيورالحمام مثلاً لا يمكن أن تقع في هوى طيور الغربان. وبهذا التفسير فإن المثل يعني، أن المرء لا يستطيع التوافق والانسجام والعيش إلا مع من يتوافقون معه في مزاجه وهواياته واهتماماته وعمله. وأنا شخصياً أميل إلى هذا الرأي.
إلا أنني، في هذه السطور، ساتجاوز قصداً المجاز المعني للمثل، وأركز على المثل ذاته، من زاوية مختلفة عن الفريقين السابقين. فالقول إن الطيور على أشكالها تقع، يشمل، في رأيي، كل الطيور القادرة على الطيران إلاّ واحداً. وهو الطير الذي مازال يطير مرفرفاً على “أطراف الدني”، في صحو سموات صوت المطربة فيروز، جزاها الله عنّا كل خير.
المقصودُ بأطراف الدني، حسب محدودية علمي، الجهات البعيدة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، جزر الواق واق الأسطورية، أو نافذة وحيدة، في شارع ما، في مدينة ما، في بلد ما، تحت سماء ملبدة بغيوم وباردة، تظل مفتوحة طوال الوقت، كل الفصول، في أنتظار وصول رسالة حب.
والطير المعني، في تلك الأغنية الفيروزية المشهورة، طائر مختلف عن كل ما عرفت شخصياً من أصناف الطيور، مما يجعله فريداً من نوعه. الفرادة المقصودة تتبدى في كونه يطير على “أطراف الدني”، ومكلف بمهمة نقل رسائل من محبّين إلى أحبّاء لهم، فرّقت بينهم المسافاتُ وتقلّباتُ الزمان. وبإمكانه، أيضاً، سؤال المُرسل إليه / إليهم، عن أحوال مَنْ” واليفو مش معو”، وبوصفه ” موجوع ما بيقول عاللي بيوجعوا، وتعنّ ع بالو ليالي الولدني.”
تلك النافذة المفتوحة، المشار إليها أعلاه، مازالت تتنتظر أن يأتيها ذلك الطير الفريد. أن يخطر بباله، يوماً ما، ويغيّر مسار طيرانه المعتاد، ويتوجّه نحوها، ويحطَّ صدفة على افريزها، ذات صباح شتائي بارد، محتمياً من مطر، وطلباً لراحة قصيرة لا غير، وليس مثلاً لتوصيل سلام، كما يفعل “عصفور الجناين”، أو لطرح سؤال، كما تروي حكاية تلك الأغنية الفيروزية الحزينة، التي لا تتوقف ذاكرتي على ترديدها،وكأنها تريد تحويلها إلى وشم، أو بالأحرى وشمين: واحد يتعلق بشخص يشبهني ” واليفو مش معو”، وآخر يخصُّ شخصاً يشبهي جداً:” تعن ع بالو ليالي الولدنِي.” وبما أن الأعتراف، في القانون، سيد الأدلة، فبودي أن أعترف أنني لا أنكر سماعي بذلك الطير. ولكن لم تجمع بيننا علاقة. ولم أره في كل حياتي حتى الآن. لكني، وهذا أعتراف آخر، أقرّ وأنا بكامل قواي العقلية، أو ما تبقى منها صالحاً، أنني كلما سمعتُ تلك الأغنية تمنيتُ لو يطير ذلك الطير نحوي، ويحطُّ على افريز نافذتي المفتوحة، ويجدني جالساً، على أحرّ من جمر، في انتظار وصوله، ومتهيئاً لتقديم إجابة عن الأسئلة التي حُمّل بها، وظل يطوف بها من سماء إلى سماء، بحثاً عن عاشق:” موجوع ما بيقول عاللي بيوجعوا، وتعن ع بالو ليالي الولدني.”