جمعة بوكليب
زايد …ناقص
“الشكوى لله” قالتْ المرحومة أمي بأسى غير مصدّقة ما سمعته، لدى إعلاني، لأول مرّة، تمردي ورفضي رفع سُفرة عجين الخبز إلى الكوشة، لأنّي أريد اللعب مع صغار الشارع. سألتني بصوت معاتب: وماذا سنأكل؟ وأنا أغادر البيت، وقبل أن أغلق الباب ورائي، صحتُ قائلاً: يرفعها مصباح.
مصباح أخي الأصغر منّي. كان آنذاك في سنّ لا يستطيع معها رفع سُفرة عجين الخبز على رأسه إلى كوشة المالطي لانها ثقيلة، وكذلك لأنّه لا يستطيع قطع الطريق الرئيس بسبب حركة مرور السيارات. لكنه تلك المرّة خاطر وفعلها. جاءني فرحًا في الشارع، وأبلغني مفتخرًا أنّه رفع السُفرة إلى الكوشة، وسيذهب لاحضارها متي جهزت. تلك اللحظة، لم يكن أخي مصباح يدرك أنّ مخاطرته تلك، وقبوله القيام بما رفضته، سوف تكلفه مالا يطاق من مشاق طيلة سنوات عديدة، حتى يكبر شقيقنا الأصغر منه، ويتولاها بدلاً عنه.
“الشكوى لله” قالتها امرأة عجوز ذات يوم في باب الحرية، كانت تفترش بسطة على الأرض تبيع أعشابًا للمداوة. كنت قاصدًا شارع عمر المختار، حيث كانوا يعلقون على أعمدة البنايات صور ما يعرض من أفلام في مختلف دور السينما. رايتُ رجلاً مرتديًا زي الحرس البلدي يقترب منها مطالبًا إياها مغادرة المكان في الحال. نظرتْ المرأة العجوز إليه بعينين متوسلتين، لكن الحرس التفت متفاديًا نظرتها. بدأت العجوز تلم محتويات بسطتها المفروشة على الأرض وتضعها في قفة سعف. اقتربت منها مبتغيًا مساعدتها. لكنّها أوقفتني بلمسة رقيقة من يدها اليمنى على يديّ الصغيرتين، وقالت لي: “صحيت سَلّمْ ولدي.” رفعتْ رأسها عاليًا نحو السماء، ولم تتمالك نفسها عن البكاء، وقالت: الشكوى لله.
لدى انتهائي مؤخرًا من قراءة تقارير وأخبار في الانترنت تتحدث عما يجري من تحشيدات في طرابلس استعداداً لخوض حرب أخرى، وجدتني أرفع رأسي للسماء كما فعلتْ تلك المرأة العجوز، وأردد مثلها بنبرة تفيض عجزًا وضعفًا : الشكوى لله.