منصة الصباح

الشاعر خالد جمعة : أنا رجل لا يرضى على الإطلاق

 

حاورته : وجدان  عياش

أحلمُ أن يتحول مطلقو المدافع إلى بنائين ونحاتين وحافري قنوات لري الأشجار.. فلسطين التي أراها في غرزة ثوب أمي وفي أشجار البرتقال وفي شاطئ البحر، وفي الأرغول والشبابة، في رقصة الدلعونة والطيارة وجفرا وظريف الطول، وفي دوالي العنب في الخليل، وفي منحوتات الأدوميين واليبوسيين والجليليين والأنباط والعموريين، وعشرات الحضارات التي تركت أثرها على الروح والرمل معا، هذه فلسطيني التي أعرفها وأحبها، أما فلسطين الشعار والبوستر والهتاف والصراخ، فلا أعرفها ولا أحب أن أعرفها.

شاعرٌ يتواطأ مع الأمل ويكرِسُ حنين أيامه في تأمل التسكع داخل لُغةٍ تشي بِشغف روحه وهي تحوزُ على طمأنينة الفقدِ، رغم أصداء حرمانه على مرايا الخوف والحرمان، أنه الشاعر والكاتب والقاص الفلسطيني.. خالد جمعة..

ظِلُك الأكثر لوعة والأقرب للبحرِ وللريحِ، بِماذا يحلم ؟

بالفضاء الذي لا يُحدّ، بتعبئة البهجة في صناديق من ضوء وإفراغها في حجور الأمهات الحزينات، بأيام دون خوف، باستعادة أمجاد العرب في الثقافة أيام المأمون لا في الحروب والغزوات، وأن يتحول مطلقو المدافع إلى بنائين ونحاتين وحافري قنوات لري الأشجار، أحلم ببلاد تشبه البلاد، أستطيع أن أغادرها وأعود إليها، أحلم كثيراً وأحيانا أصدق ما أحلم به حتى أنني أصطدم بأول شيء أراه في الشارع فلا أخطِّئُ الحلم بل أخطئ الواقع.

نفتعِلُ الرضا لواقعٍ لا يُدرِكُ متى نكونُ أكثر تسامُحاً، ما الذي يرضيك، وماهو مبتغاك في عالم الكلمة؟

أنا رجل لا يرضى على الإطلاق، وأظن أن يوم رضاي سيكون يوم موتي، حين نرضى نصاب بالغرور، وأنا على هذا المستوى غير راض حتى من نفسي، وعلى المستوى الآخر، حين يخبرني طفل أنه يضع قصتي تحت رأسه حين ينام، فإنني أنا أيضاً لا أنام تلك الليلة، أرتبك، وأشعر بما هو أكثر من الرضا، الرضا حالة جهنمية تستطيع أن تأخذك إلى السماء وتستطيع أن تثبتك بمسامير حيث تجلسين إلى الأبد..

بين شعرٍ يليقُ بِصبابةِ روحك الولهى وبين قصةٍ لا تلتزم الصمت حينما جمرُ حرفك يُعدد محاسن الفقد وبين نص أغنية يغوي خصري لاحتضانه، أين أنت من هذا الإغواء ؟

أنا هذا كله، لكني في ذات الوقت شاعر فقط، شاعر يكتب للمسرح وشاعر يكتب القصة وشاعر يكتب الأغنية، في كل شيء أنا شاعر يفعل شيئا آخر، وأظن أنه من الضروري أن يعرف أي إنسان نقطة قوته وأن يتمركز فيها وينطلق منها إلى الأشياء الأخرى، لأن سيد كل شيء هو سيد اللاشيء، ومع ترابط أنواع الفن والأدب بعد النص المفتوح ونص الحداثة وما بعد الحداثة، إلا أن كل هذا يبقي هامشا للخصوصية بين العوالم الفنية والأدبية، يجب معرفتها واحترامها، وإلا أصبحنا نشبه جاهلاً يقول لامرأة: أهلا يا سيدي، بدلا من أهلا يا سيدتي..

يقول جلال الدين الرومي، ((لا تزرع سوى العشق وإن بقى لك من العمرِ نفسٌ واحدٌ، فإن قيمة كل إنسانٍ بقدرِ ما يزرعه)) كيف لنا أن نُثير قضايـا أكثـر جديـة فـي مسيـرة توهج حرفنا ونحن نُعلي رايـة حنظلـة على أسقف بيوت الحلـم الحلم، نُهدِرُ طاقاتنا وكل ما هو إيجابي فينـا لتعذيب وقهـرِ بعضِنـا البعض ؟

هذا الموضوع لا يشكل أزمة لي على المستوى الشخصي، فلا أنا أقوم بذبح أحد، ولا يفكر أحد ـ على ما أظن ـ بذبحي، أما حنظلة المزروع على أسقف بيوت الحلم، فأنا أرى له صورتين، فلسطين، تلك التي تتكون من الرمل والحجارة والأشجار والصراعات السياسية، وهذه قصة طويلة لن تنتهي قريبا، وفلسطين الأخرى التي أراها في غرزة ثوب أمي وفي أشجار البرتقال وفي شاطئ البحر، وفي الأرغول والشبابة، في رقصة الدلعونة والطيارة وجفرا وظريف الطول، وفي دوالي العنب في الخليل، وفي منحوتات الأدوميين واليبوسيين والجليليين والأنباط والعموريين، وعشرات الحضارات التي تركت أثرها على الروح والرمل معا، هذه فلسطيني التي أعرفها وأحبها، أما فلسطين الشعار والبوستر والهتاف والصراخ، فلا أعرفها ولا أحب أن أعرفها.

أمازال سيد الفقد خلف بابِ الأمل، يتربصُ بِرؤى الوجود، بِالكلمةِ نقاوم وبِصرختها نحيا، ما الذي يحييه الحرفُ فينا ؟

{   رغم صعوبة هذا السؤال الظاهرية، إلا أنني أطلب منك أن تتخيلي انعدام الحرف، فكيف سنبدو حينها؟ هياكل عظمية دون لحم أو أعصاب، دون وعي وبالتأكيد دون حياة، الحرف هو ما يجعلنا نفهم تجريد العالم ونحوله إلى شيء يمكن استيعابه، الحرف هو المعادل الرسمي لروح الأشياء، يعطيها أسماءها وأشكالها، ويعرف الكون ببعضه كي لا تدوس المجرة الكبيرة الكواكب الصغيرة أو تبتلعها.

ثمة ربيعٌ يتخلق، يشقُ أكمام بوحنا ونحنُ نتجاسر على ظلِ خوفنا وخجلنا، كيف أن نصنع وهج بقاءنا ونقطف ثمرة فقدنا، نصاً مُغايراً مُختلفاً فيه الكثير من الجرأةِ ؟

النص المختلف بحاجة إلى روح مختلفة، أعتقد أن هذا يمكن أن يساهم على مستوى النشر، وليس على مستوى الكتابة، فمن يكتب حين يكون الظرف يسمح بذلك، ويتوقف حين يمنعه الظرف هو كاتب سيء، كاتب مناسبات، لدي الثقة الكبيرة أن هناك نصوص حرة كثيرة كتبت حتى أثناء فترات القمع الديكتاتوري، لكن ما يحدث يمكن أن يسمح لها بأن ترى النور بعد أن كانت حبيسة الأدراج.

يقولُ الشاعر بودلير.. (لقد أعطيتني وحلكِ، وأنا صنعت منه ذهباً) هكذا هي الحياة، أُنثى لعوب تدنينا من أوشامها خلسة ولا تعبأ بنبيذها المسفوح على صدرِ الورقِ، ما الذي يفعله فينا الحرمان ونحنُ نقتربُ وئيداً من وهجِ المحو وقيامة الحرف ؟

{   لا أظن أن ما يخلق الإبداع هو حالة من الحرمان أو حالة من الرضا أو حتى ما بينهما، الإبداع ينتج دائما من رؤية جديدة للعالم، حتى للأشياء التي يراها الناس عادية ويمرون من أمامها كل يوم، الإبداع يشبه أن تذهبي إلى مقبرة للسيارات القديمة وتصنعي منها سيارات يمكنك السير بها بعد أن كان الجميع يعتقد أنها مجرد قطع من الحديد، الإبداع أن تبني فيلا جديدة في كل مرة محاطة بالحدائق بدلا من إضافة طابق آخر إلى مبناك السابق، الحرمان يستحق التعبير عنه، لكن الفرح يستحق ذلك أيضاً بنفس المستوى.

تألق نصك في كثيرٍ من الأمسيات والندوات والمهرجانات المحلية والخارجية، ما الذي تضيفه للنص الإبداعي المشاركة في المهرجانات المحلية والدولية، وهل هي حافزٌ لمزيدٍ من المُثابرةِ على الإبداع؟

لا أعرف كم من الدقة في هذا الطرح، ولكن علي أن أعترف أنني أحياناً أحس بقيمة ما أكتب أكثر حين أكون في مهرجان عربي أو دولي، لكن الفكرة تتضح أكثر على مستوى الفائدة، وهي خروجك من عالمك الضيق إلى آفاق أكثر رحابة بمتلقين جدد ووجهات نظر جديدة تستقبل نمطك المختلف وتبدي رأيها فيه، هذا يعطيك فكرة عن المكان الذي تقفين فيه من المشهد في العالم.

قصيدةُ النثر، مانحةُ نسلها لشاعرٍ يأسره هذا الفيض المُتدفق من كلماتها، قصيدة مأخوذة بالتضرع والغيمُ يوشكِ على الهطول، كيف لقصيدةِ النثرِ أن تتماهى مع الموروث الثقافي والديني وتبقى كما هي، قصيدة نثرٍ حداثية؟

لا تزعج قصيدة النثر النص الديني، فهي ترتكز عليه بالضبط كما ارتكز النص الصوفي للنفري في المواقف والمخاطبات وفي النطق والصمت، وكما ارتكز ابن عربي عليه في فتوحاته المكية وفي شرح ما لا يعول عليه، وكما فعل جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وحتى عمر الخيام، الفكرة من أصلها استندت على المعنى وتركيبة الجملة والإيقاع الداخلي أكثر ما استندت إلى الوزن والقافية التي شكلت أساس النص العمودي، ولكن لا أظن أن المتنبي مثلا بقي إلى اليوم بسبب كتابته للشكل العمودي، بل بسبب روح الشعر التي تسكن الكلمات، بدليل أن الناس يقتطعون أجزاء من أبيات المتنبي ويستخدمونها أمثالا، قصيدة النثر إبنة شرعية لكتابات الصوفيين ليس الإسلاميين فقط، بل جميعهم منذ لاوتسو في الصين إلى المهابهاراتا والبهاغافاد غيتا في الهند إلى صوفيي الشرق إلى البوبول فوه في أمريكا اللاتينية مرورا بأوروبا مارسيل بروست وبودلير، فكيف نسمح بوجود كلمات من لغات أخرى في القرآن الكريم ونتساءل حول قصيدة النثر ما نزال؟

غالباً ما نُمارِسُ هوس الكتابة ونحنُ نجوسُ مساربَ وصل ضبابية الرؤى في غموضها، بأي شكلٍ تاتيك ومضة الكتابة، على شكل عشقٍ من نهاوند يبكي أم على هيئةِ صبرٍ يتباهى بِقُداسِ المُثابرةِ؟

أحيانا تروضني القصيدة وأحيانا أروضها أنا، تأتيني أو أذهب إليها، لا يهمني ذلك، المهم في النهاية الناتج، لحظة الكتابة والصدق الفني والتعبير المحسوس به، أظن في أدوات الكتابة الحديثة لم يعد لهذه المفردات من وجود، لا أعني عدم أهميتها، ولكن أصبح مضحكاً أن يقول شاعر ما “أنتظر الوحي لكي أكتب”، الوحي داخلنا دائما، فإذا تمكنا من إيقاظه وقتما شئنا فسنأخذ منه ما نريد.

شاهد أيضاً

وكيل وزارة الخارجية يبحث ملف عودة السفارة البرازيلية للعمل في طرابلس

  اجتمع وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية محمد عيسى، مع وفد من وزارة الخارجية البرازيلية، …