فتحية الجديدي
كانت الرحلة مفعمة بالبهاء, بوجودنا سوياً, فلأول مرة أرافق هذا الشخص الدمث وكرسيانا متحاذيين, ما جعل حظنا زاهر بنا .. ابن الجنوب وابن العم الكوني -هكذا رغب أن يسمي نفسه – حرص على رفقتي, فآنسني حضوره الرائع وأضاف إلى روعة الرحلة .. روعة أعظم.
كنت أراقب السماء بتمعن من خلف زجاج الطائرة واستغرقت, سابحة في محيط من التخيلات بشأن عظمة الخالق وقد تجلت لي روعة صنعته, حتى تبدى ذلك غطاءً من القطن السابح باسمه تعالي, موزع بطريقة مذهلة في لوحة إلهية غاية في الجمال ، وما إن استقامت الطائرة في رحلتها على ارتفاع 37 ألف قدم لتمضي في رحلة عمرها ساعتين, حتى اخترقنا السماء ثانية لتتناثر السحب حولنا في تناغم يسر النظر ويبهج القلب وكأننا على فراش كبير من الزهور البيضاء.
أخذنا الحديث عن الهم الثقافي, ورفيق السفر لا يفتأ يخبرني عن اللوحات التي تناولتها في نصوصي السردية ووصفي الأشياء ضمن مخيلة باذخة, وشكري لهذا الرجل الذي كانت معرفتي به من خلال نصه الصغير والجميل وتوطدت صداقتنا بعد أن تبادلنا وجهات النظر, فكان الذواق للمفردة والمطلع على الحالة, وفي كل مرة أقاطعه للعودة إلى المشهد الممتلئ روعة, إلى أن وصلنا سماء أخرى كأنها بحر أزرق خالٍ من البشر, بإيقاع ساكن ما خلا هدير المحرك.
ونحن في هذا الاتساع الكبير تذكرت صوت أمي عندما حدثني عن طفولتها وصباها وكم كانت مشاكسة ومغامرة, وهما صفتان استحالتا قوة فيما بعد, وأخال أنني ورثت ذلك منها فلم أعد أتذمر البتة, ومضينا نلون ورقة سمائنا بحديث متقطع أعود إليه كلما تختفي السحب, وفي كل مرة يضلع صديقي بالعناوين, أما المتن فصنيع صوري في امتداد هذا الأفق الرباني المنجز والمعجزة المتبدية في لوحة ثابتة دون أعمدة, وكم تمنيت لو كنت عالمة لأعرف -علي الأقل سراً يخفت حرارة الفضول بداخلي, بشأن هذه السماوات وكيف تكون طباقاً ؟ وأي سماء أخرى يمكن أن نراها ؟ وأعلم ما وراءات تزين هذه الفضاءات بثريات معلقة ؟ وإجمالاً فلا مناص للعقل البشري أن يقر حالة اطلاعه على جماليات كهذه إلا أن يقر بقدرة الخالق.
وينصاع حينها للاعتراف – إن لم يكن قد اعترف من قبل بذلك – أننا نبدو صغاراً أمام هذا الإعجاز – صغراً توازيه قلة الحيلة, وهما “الصغر وقلة الحيلة ” ملزمان لأن تلهج ألسنتنا دونما توقف بتسبيح الله وإكبار عظمته عز وجل.
ويفضي ذلك لا محالة إلى إظهار الامتنان والشكر لجزيل النعم التي أمدنا بها الخالق, وأعظمها أنه اختارنا بشراً لنكون مستخلفين في كونه, نمضي في ملكوته عابدين خاضعين شاكرين, مستشعرين لعظمته وفي ذات الآن مدركين لواسع رحمته, فنرفع أكفنا ونتضرع له أن يسدلها علينا.
كم هو جميل الغوص في تكوين الخلائق والاختلاء وتأمل الصور بعين ترى ما وراء الإبداع من معانٍ ومتطلبات, فنحن دائمًا بحاجة للنظر في هذا الملكوت والعودة للخالق في علاقة روحية لامناص منها إن أردنا السلام والسكينة.
فالسماء وهي منتهى تطلعات المؤمن منذ بد الخليقة لطالما كانت سجادة رحمة تتعفر عليها جباهنا طلباً للعفو وهي ترفع الطاعات قرباناً وتتخلص من الخطايا تنصلاً.
وبينما نحن نمضي في حديثنا عن الله وصلنا بسلام حفنا به خالقنا آمنين