منصة الصباح

التلقـــين ووأد الإبــــــداع !!‎

عمق

بقلم / علي المقرحي

 

ما من شك في أن الإبداع أبلغ صيغ تعبير الحياة عن ذاتها، كما أن إرتباط الإبداع بالوعي واعتماده عليه يجعل منه خاصية إنسانية بإمتياز.

فلا يمكن، اللهم إلا لخيال جامح أن يتصور حيوانا مبدعا.

ولكن أيضا لا يمكن توقع إمتلاك إنسان تلقى معارفه تلقينا، دون أن يراوده شك فيها ولا تساءل عما قد يكون لها من دلالات وما انطوت وتنطوي عليه من قيم (وجودية وفكرية وجمالية وأخلاقية)، أي قدر من الحس الإبداعي، أو أية رؤية فكرية أو فنية متجاوزة لحدود المتاح والمتداول الذي لا يرى فيه غير تجسيدات متعددة وتنويعات على ما كان قد تلقنه، وما ذلك إلا لأن التلقين مصنع للبلادة، وآلية تعطيل، بل وأد للقدرات الذهنية والوجدانية.

وبذات القدر من عدم التوقع الذي لن تخيبه الوقائع المعاشة، بل ترفده وتؤكده، لا يستوي الأمل في نشوء حركة نقدية حقيقية، إن في مجال الفكر أو الأدب أو الفن أو الإجتماع، أو في أي حقل من حقول النشاط الإنساني، ولأن الحياة لا تصطنع ولا يستوي التظاهر بها، بل لا بد لها لتكون حياة فعلا من أن تعاش، فإن النقد في واقع معرفي وثقافي مبتلى بمناهج وآليات التلقين والمحاكاة والإجترار البليد لن يكون نقدا حقيقيا وفعلا مؤثرا باتجاه التحرر من كل ما تضفى عليه قداسة زائفة تحت مسمى (الثوابت) من أفكار ومواضعات لا قيمة لها في ذاتها، بل تضاف إليها قيم مستدعاة ومستعادة هواميا، بما يشابه طريقة إستعادة فردوس مفقود، وبالمقابل فإن نقدا ينحو إلى التحلل من كل معطيات المتاح والمتداول دون إعمال فكر ولا تدقيق نظر في تلك المعطيات التي لا يمكن أن تكون سلبية باطلاقها بل لا بد لها (اعتمادا على سنة الحياة نفسها التي تستوعب كل المتناقضات) من أن تنطوي على إيجابيات تقابل سلبياتها وتحدها وتحددها، إن نقدا هذا شأنه ليس من النقد في شيء بل هو أشبه بعبث مراهق يتوسل اعترافا من الآخرين بوجوده، أو بتذمر صبياني لا يحسن التفريق بين ما يريد وبين ما هو في حاجة إليه فعلا .

إلى ذلك فإن الرأي أو الآراء الانطباعية التي تسوق تحت تسمية (النقد)، لا تجعل منها إستعارة التسمية نقدا بل تظل إنطباعات قد لا تكون مباشرة (بل الأسوأ من ذلك) أنها قد تكون منتحلة ومصطنعة، إلى ذلك فطبيعة النقد المتسمة بالإنفتاح على المغاير والمختلف، لا ترفض التأثر والتأثير، كما أنها تمكن الناقد الحقيقي مما يحتاج إليه من الثقة في رؤيته التي يضمنها نقده ومن الشجاعة الأدبية والجرأة على إعلان رأيه، دون وجل ولا تردد وفي مواجهة ما قد يكون متوقعا من سلبيات، بل ومن تطرف عدائي ممن ينصبون أنفسهم أوصياء على عقول الناس وضمائرهم . والواقع أن أغلب شهداء حرية الفكر وضحاياها على إمتداد التاريخ البشري (إن لم يكونوا جميعا) هم من هذه الفئة بالذات، فئة المتوحدين بالوجود والمعانقين للحياة في أعمق وأشمل وأسمى معانيهما .

إنهم الذين نراهم مثلما نرى مناقضيهم عيانا فيما قرره الفيلسوف الكونفشيوسي (منشيوس) من أن (أولئك الذين يتبعون الجانب العظيم من ذواتهم، يغدون عظماء وأولئك الذين يتبعون الجانب التافه من ذواتهم، يغدون تافهين) . ولعل من بين ما يفضي بنا إليه هذا القول، فيما تعلق بموضوعنا، أن النقد ليس تخصصا أومهنة ينشغل بها البعض دون غيرهم، لكنه إن بدا امتيازا (وهو كذلك بالفعل) فلكونه صيغة إضافية من صيغ الإبداع التي تتعدد وتتسع لتغطي آفاق الوجود ورحابة الحياة، بهذا المعنى فإن الإبداع بانطلاقه من يقين أن (في الإمكان دائما أبدع مما كان، ومما هو كائن) وبنزوعه إلى التجاوز والتحرر من الابتذال والبلادة، والانفلات من أسر المتاح والمتداول، والمبدع باعتباره الساعي إلى تحقيق ذلك الإبداع، يظلان في واقع ترين عليه ظلامية التلقين، وقداسة الثوابت المتحجرة، مجرد حلمي يقظة لن يقيض لهما تحقق مالم يقترنا بإرادة التحرر من معارف وثقافة ومناهج التلقين البليد، ومن كل ما يبررها ويضفي عليها شرعية وقداسة زائفتين.

 

شاهد أيضاً

مراجعة وتنقيح الأسعار الاسترشادية لأعمال البنية التحتية

ترأس وكيل وزارة الإسكان والتعمير لشؤون الإعمار بحكومة الوحدة الوطنية عبد المنعم صالح اجتماع لجنة …