منصة الصباح
طارق

الامتثال الناعم: كيف تطوّع المؤسسة الصحفي؟ وكيف يقاوم!؟

طارق القزيري

في كل مرة يعود النقاش (والاتهام) للصحفي بالموالاة والانحياز، والتخلي عن الموضوعية المهنية، وهو نقاش لا يبدأ في الولايات المتحدة ولا ينتهي في كمبوديا، بل عام شامل انسانيا وكونياً….. ومتجدد. إذا تجاوزنا قرابة 90% من الانتقادات (التي تعني فيها “لست موضوعيا” = لست معي، أو لست ضد من أنا ضدهم). 

بعيدا عن ذلك، ينبغي على الصحفي طرح سؤال مباشر وصريح لذاته: هل أقول فعلا ما أراه، ويتفق مع قناعاتي فعلا؟ منقد ذاتي واجب وفاء لمهنة لا تعرف إلا النقد.

حين يقول الصحفي انه لا يتلقى تعليمات من أحد فهو صادق غالبا، لكنه هذا ايضا لا يثبت انه لا يقع في حبائل إملاءات المؤسسة كذلك.

ففي قلب أي مؤسسة إعلامية (عادة) لا يُصاغ السلوك الصحفي عبر الأوامر أو الرقابة، بل من خلال ما تُنتجه المؤسسة من ثقافة معيارية تشكل أنماط التفكير وتضبط حدود المخيلة المهنية. وهذا ما تشرحه نظرية “المؤسساتية المعيارية” (Normative Institutionalism)، التي ترى أن المؤسسات لا تحدد سلوك الأفراد فقط من خلال الحوافز أو المصالح، بل من خلال “ما يتوقع منهم أن يفعلوه”، وفقاً لقيم وقواعد تعتبرها الجماعة المهنية “مناسبة” و”طبيعية”.

في هذا السياق، لا يعود الصحفي فاعلاً حراً، يتحرك وفق ضمير مهني خالص، بل يصبح عضوا في بنية معيارية تضبط لغته، وأولوياته، وحتى انفعالاته. وليس كما يتوهم!!

المؤسسة الصحفية لا توظفه فحسب، بل تعيد إنتاجه كـ ”فاعل ملائم”، يلتزم بالمعايير السائدة من دون توجيه مباشر. فكلما ازداد اندماجه في المؤسسة، ازداد امتثاله للنموذج، وقلت حاجته للتوجيه.

لا يلحظ الصحفي عادة التدرج السلس بين التأقلم المهني والتدجين الإدراكي، وربط ذلك بالانزلاق الهادئ نحو التواطؤ.

ويبدأ هذا التدجين عبر أدوات ناعمة تتكرر وتترسّخ، فهناك الاجتماعات التحريرية، التي تُعيد رسم خريطة الحدث وقوالب التناول (الجماعي) المقبول. لتصبح المحاكاة المهنية، حيث يتعلم الصحفي الجديد عبر التقليد، لا النقاش. تصلح معتادة ومتكررة.

المؤسسات لا تصدر كراسة شروط بل تحدد – ضمنيا – سلم الأولويات، الذي يملي على الصحفي ليس فقط كيف يكتب، بل عن ماذا يكتب.

المؤسسة هنا ترشح (القصة الجديرة). فعن ماذا يكتب الصحفي ليست دائماً خياره. وبالضمن كيف يكتب يخضع لتراتيب يومية مهنية قد لا يخرج الصحفي من ربقها.

هذه الثقافة التنظيمية تشكل ما يسميه البعض بـ”نموذج الإدارك المهني” ويسميه البعض (الباراديغم) وهو إطار إدراكي يُحدّد ما يمكن التفكير فيه، وما يُعدّ انحرافًا لا مهنيًا. فالخطر هنا ليس الرقابة، بل انغلاق المخيلة داخل القالب. وهكذا، يصير الصحفي غير خاضع للهيمنة، بل ممتثلًا لها بحسن نية.

ما يُعزز هذه البنية أكثر هو ما تقدمه نظرية “الاختيار العقلاني المؤسسي” (Rational Choice Institutionalism)، التي تفترض أن الأفراد – ومنهم الصحفيون – يتصرفون وفق حسابات عقلانية للمكسب والخسارة.

وهنا، يصبح التماهي مع المؤسسة ليس فقط أمرًا قيمياً، بل خيارًا عقلانيًا لضمان الاستمرار، والظهور، والتقدير، وربما الترقية. فمن يسبح ضد التيار يخسر المنصة، ومن يلتزم بالنغمة المؤسسية يصعد في السلم المهني.

النتيجة هي تواطؤ مزدوج: من جهة، تُكرّس المؤسسة معاييرها كـ”منطق ملائم”. ومن جهة أخرى، يستبطن الصحفي هذه المعايير لأنها مربحة على المدى المهني.

الحرية ضمن منطق التواطؤ الناعم؟

فهل يمكن الاحتراز مما سبق، نعم فالحل ليس مطلقا في الهروب من المؤسسة، بل في اكتساب وعي نقدي تجاه نمطها التطويعي، وصد غواية الامتثال الآمن حين يتطلب الضمير الخروج عن الصف.

فالفعل المهني الأصيل لا يقاس بالانضباط، بل بالقدرة على تحدي القواعد حين تصبح أدوات إخفاء لا إظهار.

فالاتهام للصحافة ليس فارغا، ولكنه ليس ممتلئ بالمنطق والموضوعية ايضا، وقدرة المؤسسة على “التدجين” قائمة بدون تعليمات لكن المؤسسة ليست سجنًا، حتى وهي تُجيد التهذيب.

من المهم والجوهري وعي الصحفي ب”ميكانيزم المؤسسة كواقع يعيشه فعلا”. وما لم يدرك الصحفي أنه يعيش ضمن منطق مزدوج بين القيم والعقل، سيظن أنه يكتب الحقيقة، بينما هو يعيد إنتاج النسخة المعتمدة منها.

المؤسسة لا تصرخ في أذنك، بل تهمس في وعيك، حتى تظن أن صداك هو صوتك. والمهنية التي تروّض الذئب، قد لا تُبقي فيه ما يكفي للعواء حين يخيم الليل.

—————

مرجع عام:

* “دليل أكسفورد للمؤسسات السياسية”

شاهد أيضاً

جمعة بوكليب

أولُ ثَلج

جمعة بوكليب زايد…ناقص عبر زجاج نافذة، في غرفة نومك، يقابلكَ وجهًا لوجه؛ أولُ ثلج في …