منصة الصباح

الإبداع إمتاع

زايد …ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
” الغراب الأبيض” شريط سينمائي شاهدته، مؤخراً، في الانترنت. يحكي قصة راقص باليه سوفياتي مشهور، في الستينيات من القرن الماضي، اسمه رودلف نورييف. وإن تساءل البعض عن العلاقة بيني وبين رقص الباليه، فسيكون جوابي أن رقص الباليه لا يدخل حقيقة ضمن أدنى أهتماماتي، لكنّه الضجر حين يفرض حضوره في مساء شتوي عاصف، والاغلاق العام حكم على الناس بالانسحاب من الحياة، فتلاقيا الإثنان، وفرضا عليَّ البقاء محبوساً بين جدران بيت مأهول بالوحشة، والليل في أوله. فلجأتُ إلى الاستعانة بجهاز حاسوبي الخاص، وطلبتُ مساعدة محرك البحث غوغل، فكانت النتيجة أن دلني على شريط سينمائي اسمه “الغراب الأبيض”، فقررت مشاهدته لقتل الفراغ دفاعاً عن النفس.
الشريط لم يخيب ظنّي، ويؤرخ لفترة تاريخية مهمة، انقسم فيها العالم معسكرين متعاديين، وسادتْ الحرب الباردة على كافة الجبهات وخاصة الثقافة. والعنوان “الغراب الأبيض” وصف يطلقه الروسيون على الأشخاص غريبي السلوك والأطوار. وأطلقوا الوصف على رودولف نورييف، بطل القصة، الذي فرّ هارباً من الاتحاد السوفييتي إلى فرنسا.
الشريط يوثق، سينمائياً وفنياً، رحلة صبي يولد في عائلة فقيرة، في بلدة صغيرة، ويتتبع مراحل تلك الرحلة وتطوراتها، داخل الاتحاد السوفييتي، ثم في باريس.
هناك لقطة في الشريط، شدّت انتباهي، تجمع بين رودلف ومدربه، لدى استضافته له في بيته. عقب تناولهم وجبة العشاء سأل المدرب تلميذه رودولف عن السبب الذي يدعوه للرقص. أحتار الشاب في السؤال، وقدّم عدة اجابات، من أهمها أنه يريد أن يظهر للناس موهبته، وأنه شخصياً يريد الرقص توقاً للهروب. ابتسم المدرب، وأوضح للشاب أنه لا يريد أن يعرف الأسباب التي تدعوه للهروب، وشرح له أن تقنيات الرقص ليست سوى وسائل، يمكن التدرب عليها وتعلمها، لكن الهدف الحقيقي من الرقص هو رواية قصة. وطلب منه عدم الرقص، مالم تكن لديه قصة ليرويها.
استوقفتني الجملة الأخيرة، وفتحت أمامي طريقاً للتفكير. وتبيّن لي أن الفنون باختلافها هي قصص مروية. منها ما يُروى بالرقص، ومنها ما يُروى بالرسم، ومنها ما يُروى بالكتابة، وأخرى تُروى نحتاً، أو شعراً، أو غناء..الخ.
فهل يعني ذلك ان الدافع وراء الانسان لاكتشاف الفن كان بغرض رواية قصته؟ هل الغرض من ذلك أن يعرفه الآخرون، وألا يعيش ويموت مجهولاً؟ رغبة الانسان في الحكي، في مشاركة الآخرين تفاصيل حياته، تتطلب منه موهبة استقطاب أهتمامهم. ولكي يستقطب الاهتمام ويحظى بالمشاركة، لابد أن يفكر في طريقة تجعلهم يستمعون أو يقرأون أو يشاهدون قصته. وما يستقطب الاهتمام المنشود والمأمول، لابد أن يكون شيئاً مماثلاً لمفعول الغواية على القلب، والسحرعلى العقل، والفن على الروح.
الفنان قبل أن يفكر في رواية قصته، يتوجب عليه البحث عن طريقة تتيح له شدّ انتباه الآخرين إليها جمالياً وفنياً. وهذا يفضي بنا إلى تيمة الشكل والموضوع في الفن. وهو موضوع قديم قتل بحثاً ونقاشاً. وفي رأيي، أهمية الشكل في استيعاب الموضوع في العمل الفني ضرورة وليس ترفاً زائداً، أوزخرفة بلا معنى، يمكن الاستغناء عنها. لكن التفنن في الشكل بدون محتوى، قد لايختلف عن فقاعات صابون، سرعان ما يرفعها الريح. وما دعاني للتذكير بهذا الأمر، هو انني صرت أقرا، مؤخراً، أعمالاً أبداعية تطمح لتقديم قصص لا تخلو من عمق. إلا ان ضعفها الفنّي، وقصورها الجمالي، يجعلها مملة وغير ممتعة. والسبب لأن مؤلفيها، في رأيي، لم يطوروا من أساليب سردهم فنياً وجمالياً، وغفلوا عن حقيقة أن الإمتاع يقع في القلب من الابداع.

شاهد أيضاً

تسللات مؤتمر الشلماني!

عبد الرزاق الداهش أدار عبدالحكيم الشلماني مؤتمرا صحفيا مع عبدالحكيم الشلماني، ولا غير. لعل هذا …