منصة الصباح

الأدب والسينما…أيهما في حاجة للآخر ؟

إستطلاع : مهنَّد شـريفة

 

منذ نشأت السينما في العالم وواقع الدهشة والانبهار التي حققتها وتلقفها الجمهور بحيرة ومتعة من خلال اللغة البصرية الطازجة التي تداخل فيها الخيال بمعطيات الواقع، راح صنّاعها من كتّاب سيناريو ومخرجين ومنتجين يبحثون لهم عن موطئ قدم ينافس وبضراوة التقنيات الإبداعية الأخرى كالمسرح مثلاً، فانتبهوا باكرًا لأهمية الأدب ولاسيما وأن المسرح وقتئذٍ كان ينهل جُل نصوصه من أعمال أدبية عظيمة, الأمر الذي ساهم في ازدهاره وحيويته، ومما لا ريب فيه أن صناعة فيلم يتكئ على رواية أو قصة أدبية سيُضاعف من حالة التجلي والمتعة ويجعل للسينما قاعدة ثابتة لدى الجمهور المتعطش، فأبصرنا على شاشتها الفضية روائع الأدب الإنساني كالبؤساء لفكتور هوجو والإخوة كارامازوف لفيودور دوستويفسكي والقائمة تطول في هذا الصدد … ولكن تُطل علينا بإلحاح ما باقة من التساؤلات عن إلى أيّ مدى نفع الأدب السينما ؟ وهل قولبت السينما خيال المتلقي ؟ وهل يتوجب أن تخلص السينما للنص الأدبي ؟ ولماذا لا تخلق السينما خصوصيتها الإبداعية بمنأى عن الأدب المكتوب …تساؤلات دفعتنا لطرق أذهان كوكبة من الكتّاب والمهتمين .

عبد الرحيم ناصف : شاعر وكاتب مغربي

الأدب و السينما…

معادلة خضعت لمسار “بيولوجي” ليس معقدا كثيرا. كلما تطورت أشكال الأدب: في الشعر، الرواية…تطورت السينما و كل فروعها بدءا بالسيناريو، التصوير ، الإخراج..

و لنكن واقعيين جدا، ليس الأدب وحده من ساهم في تطور السينما و تطويرها، يبدو أن الفلسفة أيضا فعلت فعلها في هذا الفضاء المكون من شاشة و ضوء و كاميرات..و تركت بصمتها..

إلى أي مدى نفع الأدب السينما ؟

فعل ذلك بالشكل الذي كان لابد له أن يكون… فخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، و بعد تطور تيار الواقعية في الأدب العالمي، نهلت السينما من معين هذا الأدب. ربما كان للحرب الإيديولوجية التي اندلعت بين أمريكا الرأسمالية و الأتحاد السوفياتي الشيوعي دور في هذا النزوع، أقصد نزوع السينما نحو ” الحوار” مع الأدب الواقعي..

ولم يقف تعامل السينما فقط مع الواقعية في الأدبـ تعداها إلى الاشتغال على أعمال أدبية كبرى فنتازية أو رومانسية…ما جعلنا في القرن العشرين  نعيش هذه المغامرة بشكل يصل إلى أقصاه؛ معيار نجاح العمل الأدبي كان ..نقله على الشاشة الفضية..و بالمقابل، نجاح عمل سينمائي أيضا، يقتضي أن يتحول إلى رواية مكتوبة..

هل بهذا المعنى ، قولبت السينما رؤيتنا للأدب، لتقييمنا لعمل أدبي ما ؟

ليس بالضرورة…مثلما للعمل الأدبي بنيته الخاصة، مناهجه القرائية و النقدية، أسلحته التي يقدم نفسه بها، للسينما أيضا منطقها الخاص..

الأدب اشتغال أساسي على الذات و محيطها..السينما، اشتغال أساسي على التقنية؛ قد يتقاطعان في أشياء كثيرة ؛ معيارية الإبداع في كل اشتغال؛ لكن يبقى لكل منهما “لغته الخاصة” التي لا يمكن أن تصير ” لغة أخرى”..

السينما كقارئة ..للنص الأدبي ..

تقرأ السينما، من خلال المخرج، كاتب السيناريو، المصور..النص الأدبي. نحن أمام قراءة واعية تحضر فيها ” التقنية”، الكاميرا هنا،..قراءة لا بد أن تكون مختلفة جدا، مخالفة لما يفعله القارئ العادي المسلح بذاته و معارفه الأدبية فقط. المتفاعل بكل كيانه مع المقروء و إحالاته..

إننا أمام إعادة إنتاج جديدة لنص أدبي مغاير..إعادة إنتاج نص تقدمه السينما.

لا إخلاص أساسا للنص في أية قراءة…أو تأويل، فكيف تمارسه السينما؟..ينبغي ملاحظة أنه كلما ادعت السينما إخلاصها للنص الأدبي، أي الحفاظ عليه كما هو، يفشل العمل فنيا و سينمائيا…

عن الخصوصية..خصوصية الإبداع السينمائي بمنأى عن الأدب المكتوب..

يبدو طرحا غير محتمل التحقق، فقط لأن منطق الأمور ينحو نحو تلاقح الأشكال الإبداعية الموجودة للمضي نحو أشكال جديدة من الإبداع…لنلاحظ الأشكال التعبيرية الجديدة في المسرح مثلا؛ حيث حضور الشعر ، الموسيقى، الحركة في لوحة واحدة..

بالمقابل، كلما طورت السينما “اشتغالها التكنولوجي” كلما كان تفاعلها مع الأدب المكتوب أكثر خصوبة و أكثر إبداع

مريم جنجلو : شاعرة وقاصة لبنانية

على مدى عقود، شكّلت السينما لسان حال الأدب، حيث رأيناها تنطق بكلماته، تعالج مواضيعه وكثيرًا ما تتماهى مع أجوائه في أية رواية أو عملٍ مكتوب تقدمه. لذا عوضًا عن اتهامها بقولبة خيال المتلقي، ربما الأكثر صوابًا اعتبارها أجنحة مخيلة المشاهد وعينَهُ اللاقطة في كثير من الأعمال المقدمة، كونَها تؤسس لمُرتكَزٍ مشهديّ يمنحُ الرائي بصيرةً مرئية قد تعينُه على استنطاق ما قرأه في عملٍ مكتوب والمقاربة عقليًا بين النتاجَين ما يعني بالضرورة إغناء قدرته على التوفيق بين الكلمة، الصوت وَالصورة، وهيَ العوامل الثلاثة المركزية واللازمة لإعمال وَتحريك الذائقة لديه.

ليسَ من الضرورة أن تطابق السينما الأدب بقَدرِ ما هو أساسيّ أن تُكَمِّلَ مواضع النقص وربّما الجفافِ فيه، كونَها الأكثر غنًى بالعناصر الفنية من مؤثراتٍ صوتية وَصُوَريّة، إلى حوارٍ وَموسيقى، وبالتالي فَهيَ أكثرُ قدرةً على توجيه السّرد الأدبيّ نحوَ النّفَق الحسيّ الخاص بكلّ مشاهدٍ على حدة، وهنا تكمنُ ديناميكية السينما في محاكاتِها للأدب. لذا فإنّ الإخلاص للنص الأدبيّ بِحذافيره دونما ابتكارٍ في حالته العامة أو السيناريو قد يقلب انطباعَ القارئ حول النصَّ الأدبيّ بعد تحوّلِه إلى مُشاهدٍ له، لذا بالتحديد أوجدَت الاجتهادات العمليةّ السينمائية.

وَعلى الرغم من كَونِ العلاقة بين الأدبِ والسينما حتى يومِنا هذا هي علاقة تأثرٍ وتأثير، وَقُربٍ وَإقصاء في آنٍ معًا،فإنّ كِلا الفنَّيْن استطاعَ أن يحتفظ بخصوصيّتِه وَإن رجَحت كفّة السينما غالبًا فذلك مآلُهُ للانجذاب الفطري للدماغ البشريّ إلى الضوء والصوت وَالحركة، غيرَ أنّ ذلك لا ينفي قدرة الأدب في حالاتٍ معيّنة على تركيبِ مشهدٍ كَلمِيّ قد يلمسُ شعورَ القارئ ويستقرُّ فيهِ على هيئة صوَرٍ انطباعية متخيّلَة.

لقد اهتمّت السينما كَفنٍّ عالميّ بتشكيل ملامحِ الكلمة وتشخيصِها بِشكلٍ أكثرَ جِدّيةً من المسرح وَهنا نقطة قوّتها التي ليسَ من الإنصافِ اعتبارُها نقطةَ ضعفٍ إذا ما قورِنَت الأعمالُ السينمائية المستقلة بتِلكَ المقتبَسة عن الكُتُب. طالما أنّ وظيفةَ الفنون هي التلاقُح لِلخروجِ من دائرةِ العقل نحوَ رِحاب المخيِّلة. وَطالما أنَّ العقلَ البشريّ نفسَهُ مهمَّتُهُ الابتكارُ في إطلاق سراح المخيّلة لا قولَبتِها بالاستنادِ إلى معيارٍ ثابت أو صارمٍ في النّقد ويتجنّبُ إفساحَ المجال للقارئ بالإبصار والسّماع لا القراءة والمرور بينَ السطور بِصمتٍ فَحسب.

هدى الغول : كاتبة وشاعرة ليبية

لا ريب أن المنفعة بين الإثنين طردية فكلاهما توكأ على الآخر من نواحٍ متعددة ، فإن كان المردود فنيًا فستبدو نفعية السينما بحيازة مادة مكتوبة جاهزة، لن تأخذ جهدًا كبيرًا ليتم تحويرها إلى سيناريو إذ خلقت الشخصيات والأماكن بتصوير فني حكائي وأحيانًا دراميكي وحركي فلا تأتي على المخرج المشقة في نسجها وبلورتها وتوليفها لتنطق صورتها البصرية السمعية حركة ومشاهد.. وكثيرًا ما استفادت أعمال روائية وقصصية من السينما حين استدعائها لتقنيات السينما كالمونتاج والسينوغرافيا وايماءة الممثل لتأثيث الأماكن والشخصيات والأزمنة وتقديمها بطريقة مبتكرة للمتلقي يتم فيها شد المتفرج والسيطرة عليه وإدارة مشاعره من خلال صناعة الادهاش وكسر افق انتظاره وكثيرا ما توصلت الى أسر ذهن متلقيها.

ومن الناحية الاجتماعية لاقت السينما الأدبية قاعدة شعبية لا بأس بها، فكان للتكالب على الأفلام الأدبية العالمية والعربية وشغف البعض لمشاهدتها دورًا مهم في تكوين فكرة عن فن الرواية والانجذاب لكتابة الرواية او الاهتمام بما يقدمه الروائيون.. ومن الناحية الاقتصادية فإن السينما التي تماثلت في تقديم الرواية كفن مصور وهادف قد جنت من إنتاجها أرباحًا كثيرًا ما ساهمت في نمو الناتج المحلي لدول متقدمة ونامية، ويعتبر حصول بعض الأفلام على جوائز وميداليات ثمينة ورمزية قد ساهم بشكل غير مباشر في الترويج لصناعة السينما وتحقيق المنافع شكلية مما عجّل في تسريع عجلة الاقتصاد وخلق سوق منافسة بطلبه وعرضها ، وبالنسبة للرواية فالأمر مماثل ولا يفوتنا ان نشير إلى أرباح الشهرة والنفع العيني والمادي على الكتاب ودور النشر. من الناحية الفنية فكل رواية عانقت فيلم تمخض عن هذا العناق أعمال نقدية تناولتها إيجابا وسلبا لذا جاءت لتحسب للطرفين أو عليهما … أرى أن السينما قولبت خيال المتلقي إلى حدٍ ما، فالرواية التي تقرأ من العتبة إلى نقطة النهاية سيذهب إليها المتلقي بخياله عند توغله بها بشكل عفوي منه أو طوعي بيد الكاتب، هي لاشك الوسيلة الأسمى في الدهشة والإثارة، فمن يصنع عوالم القصة هو المتلقي نفسه إذ هو من ينتجها ويخرجها فتخلق له الشعور بالرضى وتمنحه مساحة خاصة بالتذوق، مهما حاولت السينما أن تبتكر من وسائل وأساليب فنية للإبداع في الخلق التصويري والحركي (السمعي والبصري) سيبقى إلى جانبها خيال المتلقي هو الأفضل في ترويض ذهنه وتحفيزه على الإدراك الفني والإبداعي..

ومع ذلك لا اعتقد أن الإخلاص فرض عين فما خضع النص لمخرجٍ إلا وكان له الأريحية في تحويره وتطويره ولا ننكر أن لبعض المخرجين بصمتهم في أعمال أدبية عظيمة هذا من جهة، ومن جهةِ أخرى يعتبر الفن نزيهًا طالما أخلص للنص وحاول قدر الإمكان ان يحافظ على مضمونياته الحسية والفنية، والجدير بالذكر أن بعض الأعمال السينمائية قد أساءت للأدب من ناحية التركيز على شخصية واحدة أو عدم الامتثال إلى الموضوعية والذاتية كما ينبغي في محاكاة القصة وتقديمها بإخلاص لكاتبها بإعتباره المنتج الأول للفكرة وكيفية وحيثية تناولها، هذا بالإضافة إلى أن لا بأس بخروج طفيفٍ عن النص، بمعزل عن الشذب الذي قد يأتي مسيئًا لا محسنًا..

للسينما فعلا إبداعها الذاتي والمستقل عن الأدب ولو بحثنا لوجدنا الأمثولات كثيرة بهذا الصدد حيث يكون المخرج هو كاتب النص وهو صانعه، ولا مناص من اعتمادها بين وقتٍ وآخر على نتاج الإبداع الأدبي لأن ذلك استثمار من الناحية الفنية والأدبية هذا فضلاً عن المكاسب المالية التي ستدر نفعًا ماديًا ومعنويًا على الأطراف المنتجة وتساهم على الصعيد نفسه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية  للدولة.

محمود عبد الرحيم: كاتب صحفي وناقد سينمائي مصري

 

بكل تأكيد لعب الأدب دورا مهما في اثراء شاشة السينما من خلال الأعمال الروائية المهمة لكبار الأدباء سواء على المستوى العربي أو العالمي مقارنة بكثير من الأفلام التي اعتمدت فقط على سيناريو لا يستمد أحداثه وشخوصه وحبكته الدرامية من عمل روائي وعوالم فنية ثرية أتاحتها جودة الأعمال الروائية إلى جانب أن وجود عمل روائي مهم كان في كثير من الأحيان محفزًا لصناع السينما من منتجين ومخرجين وكتاب سيناريو على اقتباسه أو تحويله لعمل سينمائي.

ولعل أبرز النماذج على ذلك أعمال روائيين عرب كبار كيوسف إدريس ونجيب محفوظ ،ويحي حقي، وإحسان عبد القدوس. بل إن بعض الأدباء الكبار ومنهم نجيب محفوظ حين قرر التوقف عن الكتابة الروائية لفترة لجأ إلى السينما واحترف كتابة السيناريو وبعض كتاب الدراما المشاهير كأسامة أنور عكاشة مثلاً بدأ حياته أديبًا ثم تحول للسينما والتلفزيون

ومثلما كان للأدب فضلًا ملحوظًا على السينما.. فالعكس أيضًا صحيح حيث عملت السينما على الإضافة للأدب بتقديمه لجمهور عريض من محدودي الثقافة أو معدومها من البسطاء، ولو عبر وسيط مختلف كالشاشة

إلى جانب أنها عرفت القاعدة العريضة بأعمال أدبية وأدباء وحرضت على البحث عن أعمالهم وقراءتها وتحقيق رواج لبعض الأعمال الأدبية، لكن في كثير من الأحيان يحدث ما يسمى بخيانة النص الأدبي على شاشة السينما حيث أحيانا ما يدخل السيناريست أو المخرج أو الاثنان معًا تعديلات علي النص الأصلي،

أو يقوما بالتركيز على خيط درامي واحد أو حادثة واحدة وإهمال الباقي أو التركيز على شخصية دون أخرى أو تهميش َوحذف بعض الشخصيات والأحداث إما لضرورة درامية أو لعدم اتساع الوقت والوسيط المساحة الروائيةَ والمدى الزمني الطويل مثلاً، حيث أن الفيلم هو تعبير في الأساس عن فكر وفلسفة صانعه أكثر منه تعبير عن فكر الكاتب الروائي والكثير من كتاب السيناريو والمخرجين بالفعل كان يصنع صور نمطية ولا يعبر بصدق عن أبعاد العمل الروائي إما لضيق الامكانيات المادية أو لقراءة سطحية ومباشرة للأحداث َوالشخوص غير أنه لا يمكن إنكار أن ثمة أعمال سينمائية أبعدت عن الأدب وكانت تتسم بالجودة َوالعمق والفكر السينمائي والجمالي الجذاب.فالعبرة بخبرة صانع العمل السينمائي على المستوى التقني والجمالي والفكر وليس بكون العمل مستلهم من عمل روائي ام لا.

 فوزية أوزدمير: أستاذة فلسفة وعلم نفس سوريّة

 

إن الأدب حليف حميم للسينما  تتفاعل معه كيميائياً لتنتج فناً لا يشبهه أيّ من هذه الفنون الأخرى رغم أنّ الجدل ما زال قائماً حول العلاقة بين الأدب والسينما

هي بصريح العبارة علاقة وطيدة أحياناً ، ومعقدة في احايين أُخر ى بين الفكرة المطروحة / والعين الراصدة  من حيث السرد الحكائي الحركي الشخوصي خلف اللغة المسرودة وتذوقها ، وأمام الصورة المرئية وتعبيرها ، فجاذبية الصورة السينمائية غير جاذبية الصورة المقروءة ولكن تصب في علاقة واحدة ” المنفعة ”

حيث قامت السينما بتحويل الأعمال الأدبية الشهيرة إلى أفلام ذاع صيتها ، وبقيت خالدة في ذاكرة الجمهور أي ” المتلقي ” وكانت الإيرادات المادية في أعلى مستوى

كما كان اقبال دور النشر على طبع نسخ عديدة من الأعمال الأدبية بكافة صنوفها ، تخضع أيضاً هذه العلاقة على ” المنفعة ” بين الشهرة والمال على سبيل المثال

ذهب مع الريح للروائية مارجريت ميتشل , العراب للروائي ماريو بوز , المدينة والكلاب للروائي ماريو فارغاس يوسا , بابيون للروائي هنري شاريير .. وغيرها كثير

وبذلك تكون قد ضربت السينما عصفورين بحجر ,حين وفرت نوعاً آخر من القراءة الأدبية وهي القراءة المرئية ، وساهمت في ذات الوقت إلى حدٍّ ما بانتشار العديد من الأعمال الأدبية مادة غنية وثروة للسينما ولكاتب الرواية أو العمل الأدبي

وبذلك تكون العلاقة بين الأدب والسينما عبارة عن علاقة  ” منفعة ” تصب في خدمة الفنين

قد تقولب السينما خيال المتلقي ، فهي لا تمنحه متخيلا واسعاً للمكان والزمان الروائي ، حتى ولو حدّد الكاتب مكاناً معروفاً موجوداً على أرض الواقع

لكن هذا لا يعني بالضرورة معرفتها من قبل جميع القراء ، فهناك نسبة كبيرة من القراء لم يزر تلك المناطق ، فالجهل بها وبتفاصيلها لا تعني له بقدر ما تقدم له الحكاية المصورة ، الأمر الذي يستدعي مخيلة المشاهد إلى تصور المكان وتفاصيله بقدر اطلاعه وقراءته ولو بنسبة متفاوتة ، فالفعل المحرك للحكاية يضفي بعداً مخيالياً للمتخيل وأحياناً يفرضه عليه

كما أنّ الزمان الروائي أيضاً قد يحيل هو الآخر القارئ إلى خيال يفترض زمان المعيشه ، يتحرك فيه من تخيلهم شخصيات رسمها هي الأخرى لخياله لتكتمل الصورة الافتراضية في ذهنه

فهناك لا نقول أنّها قولبت بالمطلق ، ولكنها شاركته القولبة ، أي هي الوسيط التعبيري بين المرئي / والمقروء  أحياناً تقوم بعملية تسهيّل الأمر للصورة المتخيلة في كلا الحالتين , حيث لم يعد المشاهد يتخيل نفسه شاهداً غير مرئيّ ، بل متخيل في سياق التماهي والتقمص والاندماج في الوهم المعروض أمامه

كما في السينما التقليدية التي كانت بمثابة تلاقي دائم بين هذا الشاهد والحدث

فبوسع الآلة الفوتوغرافيّة أن تكذب تماماً كالآلة الكاتبة التي يمارس عليها الكاتب في طقوسه الكتابية

وبالنهاية كل وهذا يعتمد على المتلقي السينما عصية على التلائم والتوائم والتوافق والتأقلم مع الرؤية النظرية للكتابة المقروءة ، ولكن لكي تخلق علاقة جهنمية الإبداع عليها بالمتابعة ، كعين شاهدة متلصّصة على مشهد الكاتب الذي يحاول بتعمد على إغلاقه , فالسينما تتحرك بحرية من سلطة النّص الأدبي أثناء عملية السيناريو ، والاقتباس ، والتحوير في العلاقات , فنجد على سبيل المثال المخرج ” داود عبد السيد قد عمد إلى التغيير بما يناسب رؤيته وأحداث فيلمه وبناء شخصياته ، واكتمال رؤيته عبر الكاميرا ، بعيداً عن الرؤية الحدثية للرواية في ” الكيت كات ” , ففي الكيت كات ، لا تخضع أحداث الفيلم للترتيب الذي جاء في رواية ” مالك الحزين ” للأديب ” إبراهيم أصلان ” حيث انفتح الفيلم برؤيته هو ثم لينغلق برؤيته أيضاً

هناك مجانسة ولكن بدون تشابه أو تماثل ، بل بعض التشابه الجزئي الذي يطفو للعيان بين الفنين ” السينما والأدب ” , فهما من حيث جوهرهما وطبيعتيهما وطريقة أو نظام الإدراك فيهما ، والذي يميزهما عن بعض ويوسم كلاً منهما بطابعه ، مما يجعلهما مختلفان ومكملان بعضهما للبعض الآخر

فعلى سبيل المثال ..  النّص الشكسبيري يتكيف داخل النسيج الحلمي للفيلم ، ويتخذ قالبه وهيكليته وتصميمه دون أن يتقولب كلياً بحدوده ، هو بالنهاية أسلوب تجريبي قابل للنجاح والفشل

فليس دور الفن في كلّ ضروبه أن ينقل الواقع كما هو ، وإنما دوره أن يخلق رؤية فنية يقارب بها الواقع ، انطلاقاً من ذلك المعطى , وتبقى العلاقة ليست علاقة تنازع وسيطرة ، بقدر ما هي علاقة تكامل وإثراء

لقد أوجدت السينما خصوصيتها بمنأى عن الأدب المكتوب ، فيكفي مثلاً أن نتأمل ما لجأ إليه ” برغمان ” في فيلمه الشهير ” برسونا ” أو ” القناع ” دون الاستناد إلى أصل أدبي لكنه ارتقى به بحيث يتجاوز أرقى أعمال الأدب والفكر / فهو يضمّنه تأملاته الفلسفية والروحانية وأفكاره الخاصة عن الموت والحياة في سياق سينمائي بصري أصيل بحيث أصبح من الممكن القول إن السينما نجحت في أن تخلق أدبها الخاص بها , حين تستخدم السينما أيضاً فكرة الروائي الذي يقص روايته على القرّاء ولكن بعد أن تجعل من ” الكاميرا الموضوعية ” هي عين المؤلف الذي يروي القصة ، وينتقل ما بين شخصياتها وأحداثها ، ويمكن للفيلم أن يُروى من خلال وجهات نظر عدة أو شخصيات متعدّدة ، كما نرى في واحد من أكثر الأفلام أصالة في تاريخ السينما وهو فيلم ” المواطن كين ” لأرسون ويلز ، وهو فيلم مكتوب مباشرة للسينما

وكما شاهدناها في قديم السينما في الأفلام الصامتة مع أنّ الكلام هو أحد أجنحة الصمت ، فكان ” تشارلي تشابلن ” قد أبدع في لغته الحركيّة التلقائية  التي من قوتها الإيقاعية تمتلك من الصخب أحياناً ما يصم الآذان , فهو لم يعتمد على أي رواية أو قصة في تقديم أفلامه

فالسينما هنا اعتمدت على الذاتية الكاتبة دون اللجوء إلى أي عمل كتابي من قبل أي أديب ما ، ولكن من ناحية أخرى قد لا يلاقي رواجا وحتى لو خرج للنور ، فالمتلقي قد لا يهتم بشكل جديّ , فالجمهور الذي اعتاد على مشاهدة أفلام ذات بناء قصصي من كتاب محترفين من الصعب إرضائه في مثل زمننا هذا ودخول التكنولوجيا إليه

هناك نوع آخر من اللغة ، شكل آخر من الاتصال في الإبداع الفني ، ليس خاضعاً لقوانين مطلقة سارية المفعول من عصر إلى عصر , ولكن إنّ جسم النظرية المتصلة بهذه الخصوصية من الصعب الإجابة عنها

فالسينما لا تزال هزيلة وواهية , فالحركة الاقتصادية التوافقية هي من تحدد العلاقة بين السينما / والأدب , وهي الفكرة الحقيقية لكلا من الطرفين في الإبداع الاقتصادي والمردود الماديي وهي مؤسسة تدعم الربح المادي قبل كل شيء

وفي ذات الوقت أعتقد أنّ السينما فيما تتطور سوف تتحرك بعيداً ، ليس عن الأدب فحسب ، لكن أيضاً عن بقية الأشكال الفنية المتاخمة

ربما العملية لا تمضي بالسرعة التي يتمناها المرء ، تحتاج للزمن حتى يبني المخرجون أنفسهم حين يحققون فيلماً من خاصية متفردة في الكتابة الذاتية ذات دلالة هامة .

 

شاهد أيضاً

مأدبة إفطار على ضفاف بحيرة قبر عون

نظم نادي الجنوب الليبي للرحلات السياحية والصحراوية، ومنظمة نجوم الصحراء للرحلات السياحية، مأدبة إفطار رمضانية …