منصة الصباح

إطلالة على فيلم Baaria

محمد الهادي الجزيري

محاولا قدر الإمكان تقديم الإضافة المرجوّة ..أقدّم لكم رائعة من روائع السينما العالمية ..تشريكا للقرّاء وتوزيعا للمعرفة والثقافة والفنّ .. إذ قادتني الصدفة ذات مساء شتائي بارد إلى تشرّب فيلم إيطاليّ عنوانه baaria..للمخرج الرائع  Giuseppe Tornatoreوأذهلني بقوّة … وقصدت بلفظة ” تشرّب “.. أني تذوقت كل لحظة منه رشفة رشفة.. والتهمت كل أحداثه لقمة إثر جرعة..، لقد استحوذ عليّ وأرغمني على انتقاء بعض اللقطات ..أقدّمها لكم يا إخوتي القرّاء ….

ثمة لقطة أعادتني للطفولة.. اللقطة تصور جهاز التلفزة في السبعينات.. معروض في صدارة قاعة الجلوس.. وحولها وأمامها جمهرة من الناس.. من أهل وأصحاب وجيران.. والكل صامت مشرئب إلى الشاشة الناطقة.. أعادتني إلى بيتنا في نفس الحقبة من القرن الماضي.. حين اشترى والدي تلفزة.. وصار كل الجيران والأقارب يحجون إلى سهراتنا.. ويقضون معنا أمتع الأوقات.. لم تكن التلفزة متوفرة ولم يكن في مقدور الأغلبية من الشعب أن يشتريها لأن ثمنها باهظ.. لذلك كان الخلان والجيران يأتون إلينا… وإنها لقطة مسّتني وأعادتني إلى الزمن الجميل

من اللقطات الأخيرة التي شدتني وأرجعتني إلى صباي.. مشهد الخذروف.. كيف يعثر عليه الطفل مقسوما نصفين.. وبعد بكائه وألمه.. يلاحظ خروج الذبابة التي وضعها له صانع الخذروف… ولآ تهمني الذبابة بل ما ذكرني به الخذروف من طفولتي .. لقد كنت أقضي القيلولات والمساءات في البطحاء المقابل لبيتنا.. ومعي خذروفي ألاعب أترابي.. وكم كنت أتألم حين أخسر ويعاقب الخذروف بضربات من قبل أترابي.. وأنا أتابع العقوبة بعينين دامعتين.. آه يا صباي….

اختيارات المخرج للشخصيات كان موفقا إلى أبعد حد… فلقطة المحتضر مثلا.. كانت ناجحة وأعادتني إلى لحظة وفاة والدي.. رحمه الله.. ثم يتركني كمتلقٍ في حيرة وتساءل :ترى كيف أستقبل موتي؟ أرغب أن تكون نهايتي مثل الممثل.. فقد مات بعد قدوم ابنه.. وكم أتمنى الموت وبجانبي أهلي وابني الأصغر خالد… وأقول له :لقد انتظرتك إلى هذه اللحظة… _ فيضع رأسه على صدري.. حينها أزفر الزفرة الأخيرة….

لشد ما سكنني هذا الفيلم الرائع.. من مشاهده المتجذرة في الإنسانية.. أذكر وقفة الفتى الوسيم خلف جدار ولا يظهر منه إلا وجهه ويداه.. وكانت الفتاة واقفة على شرفتها.. ما شدني هو حركة يديه وهو يشير إلى موعد ما.. ذكرني ذاك بما فعلناه جميعا في صبانا.. من وقوف طويل تحت الشرفات.. حتى تطل علينا حبيباتنا.. لكم حركنا الأيدي والأصابع محاولين تمرير معلومة أو قول كلام مشفّر… لكم كتبنا من رسائل بالغة في الحب والشوق.. وأرسلناها مع صديق لنا أو قريبات لهن.. لكم كان العالم جميلا وبسيطا قبل أن تأكلنا الأنترنات.. وقوى العلم الرهيبة…

مسني دور العجوز الذي تتظاهر بطبخ البخار والآنية فارغة فوق النار.. إلا من الماء الساخن.. وتجلس قبالة البيت حامدة الله على كل حال.. وحين تسألها جارتها عن أحوالها تقول إن كل شيء على ما يرام… في الحقيقة ذكرني هذا المشهد بأمي المجاهدة.. لقد كانت في بداية زواجها تسكن في ” وكالة” أي في بيت مشترك مع الجيران.. وكانت تعمد إلى طبخ الهواء.. إذ لآ شيء يطبخ في الإناء.. وكم كانت تصمد أمام سطوة الجوع وتتظاهر بالسعادة والشبع والطمأنينة.. أمام الجيران.. هذا ما حدثتني به الوالدة عليها رحمة الله.. على كل.. هذه بعض اللقطات من فيلم يدوم قرابة الساعتين ونصف الساعة.. أردت أن تشاركوني فيه.. في مرحلة دقيقة من تاريخ المنطقة العربية ..هذه العازمة على الفرح …

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …