تحرير : عبدالسلام الغرياني
في كتابه الصادر حديثا “أمريكا، أمريكا: تاريخ جديد للعالم الجديد”، يقدم المؤرخ الحائز على جائزة بوليتزر، “غريغ غراندين“، رؤيةً ثوريةً تعيد صياغة فهمنا للعلاقة الجدلية بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية.
عبر سردٍ يمتد لخمسة قرون، يكشف غراندين كيف تشكلت هوية الشمال والجنوب عبر تفاعلاتٍ مضطربة، تتراوح بين الصراع والتعاون، مُبرزًا الدروس العميقة التي يمكن للولايات المتحدة أن تستقيها من جيرانها الجنوبيين، لا سيما في ظل التحديات المعاصرة التي تواجه القيم الديمقراطية والإنسانية، خاصة بعد أن أمر الرئيس الامريكي ترامب بتغيير اسم خليج المكسيك إلى “خليج أمريكا”، الذي واجه انتقادات كبيرة من المثقفين في أمريكا اللاتينية و الجنوبية.
جذور التاريخ المشترك: من الغزو إلى الثورات
يبدأ غراندين رحلته مع الغزو الإسباني للأمريكيتين، الذي وصفه بـ”أعظم كارثة ديموغرافية في التاريخ البشري”، حيث أبادت الأمراض والعنف المُمنهج ما يقارب 90% من السكان الأصليين.
هنا، يبرز دور الراهب “بارتولومي دي لاس كاساس”، الذي تحول من مشارك في الاستعمار إلى مدافعٍ شرس عن حقوق السكان الأصليين، مُشكِّلًا بجدالاته اللاهوتية أساسًا مبكرًا لفكرة الحقوق العالمية.
المقابل، يوضح غراندين أن المستوطنين الإنجليز في الشمال فسروا الدمار الذي حل بالسكان الأصليين كـ”إرادة إلهية” لاستيطان الأراضي، مما أسس لثقافة الفصل العنصري التي ميزت التاريخ الأمريكي اللاحق.
الثورات وتشكيل الهويات: من بوليفار إلى روزفلت
عندما نالت دول الأمريكيتين استقلالها، اتخذت مساراتٍ مختلفة. فبينما تبنت الولايات المتحدة نموذجًا فرديًا يركز على الحريات السلبية، أدرجت دساتير أمريكا اللاتينية – كما في المكسيك – حقوقًا اجتماعيةً كالتعليم والصحة، مُقدمةً رؤيةً أكثر شموليةً للديمقراطية.
بل إن “سيمون بوليفار”، زعيم تحرير أمريكا الجنوبية، رفض النموذج التوسعي للولايات المتحدة، داعيًا إلى إعادة توزيع الأراضي على السكان الأصليين، وهو ما ألهم لاحقًا حركات الإصلاح الزراعي في الشمال نفسه.
غير أن التوتر ظل قائمًا. فبينما رحبت أمريكا اللاتينية بـ”مبدأ مونرو” (1823) كضمانة ضد الاستعمار الأوروبي، سرعان ما تحول المبدأ إلى ذريعةٍ للتدخل الأمريكي في شؤون الجنوب، بدءًا من تغيير النظام في المكسيك عام 1825، ومرورًا بالحرب المكسيكية الأمريكية (1846-1848) التي سلبت نصف الأراضي المكسيكية.
من الثورة المكسيكية إلى الأمم المتحدة: إرث الإنسانية الجنوبية
يُبرز غراندين كيف شكلت الثورة المكسيكية (1910-1920) نقطة تحولٍ عالميةً عبر دستور 1917، الذي كان أول من نص على حقوق العمال وحصر ملكية الموارد الطبيعية بالدولة.
هذه الأفكار انتقلت شمالًا، حيث استلهمت حركات الإصلاح الزراعي في الولايات المتحدة من تجربة الرئيس المكسيكي “لازارو كارديناس”، الذي أمم النفط عام 1938 دون تدخلٍ أمريكي، بفضل سياسة “الجار الصالح” التي تبناها روزفلت.
بل إن غراندين يرى أن التعاون مع أمريكا اللاتينية خلال هذه الفترة هو ما مهد لقيام الأمم المتحدة، عبر تبني مبادئ القانون الدولي التي طورها فقهاء الجنوب لمقاومة الهيمنة الشمالية.
الدروس المعاصرة: مواجهة الاستقطاب بالتراث الإنساني
يختتم غراندين كتابه بنقدٍ لاذعٍ للسياسات الحديثة التي تجسد الانعزالية والعنصرية، كما في محاولة ترامب تغيير اسم “خليج المكسيك” إلى “خليج أمريكا”، والتي ترمز – بحسب غراندين – إلى استمرار النزعة التوسعية المُتجاهلة للتاريخ المشترك.
في المقابل، يؤكد أن التقاليد الاجتماعية الديمقراطية لأمريكا اللاتينية، المتمثلة في النضال من أجل العدالة والمساواة، يمكن أن تكون رادعًا ضد صعود الشعبوية اليمينية، داعيًا إلى استعادة روح التعاون التي ميزت حقبة “الجار الصالح”.
نحو فهمٍ جديد للهوية الأمريكية:
كتاب غراندين، دعوةٌ لإعادة تعريف “العظمة الأمريكية” ليس عبر التفرد، بل عبر الاعتراف بالديون الثقافية والسياسية للجنوب. فكما يقول: “لا يمكن فهم تاريخ الشمال دون الجنوب، والعكس صحيح”.
في عالمٍ تتصاعد فيه الانقسامات، يقدم هذا العمل مرآةً للماضي تُظهر أن المستقبل الأكثر إنسانيةً يكمن في الاعتراف بالترابط المصيري بين الأمريكيتين.