منصة الصباح

هندسة التوافق

مفتاح قناو

عندما كنا نتردد على دور السينما في سبعينيات القرن الماضي، كنا نشاهد قبل بداية عرض الفيلم السينمائي الإعلانات الدعائية، ومنها إعلانات التدخين التي كان ينفذها نجوم السينما المعروفين في ذلك الزمن، أما بداية استخدام الدعاية للترويج لبيع السجائر فكانت له حكاية طريفة ستقودنا حتما إلى الحديث عن شخص امتلك عقلا جبارا، وكان نجما مؤثرا في القرن العشرين، هو إدوارد بيرنيز المولود في فيينا بالنمسا في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وقد كانت والدته آنا فرويد شقيقة عالم النفس المعروف سيجموند فرويد.

بعد رحيل العائلة إلى أمريكا، وانتهاء إدوارد من دراسته هناك، بدأ بيرنيز عمله في مجال الصحافة، ثم عمل وكيلا دعائيا لبعض نجوم الفن، حيث بدأت تظهر مواهبه في فن الدعاية والإعلان، كان إدوارد بيرنيز شديد القرب من خاله سيجموند فرويد، ملما بما يطرحه من أفكار ونظريات في علم النفس البشرية، وقد تجلت عبقرية بيرنيز في استخدام هذه النظريات في عمله الدعائي والاستفادة منها لتحقيق إرباح تجارية كبيرة، حيث تم تكليفه عام 1917 من طرف الرئيس الأمريكي ويلسون عضوا في لجنة الإعلام التي كان من مهامها الترويج لدخول ومشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى.

بعد انتهاء الحرب عاد إلى العمل الخاص ليؤسس شركة مختصة بالعلاقات العامة، ثم أصدر في عام 1923 كتابه الهام في العلاقات العامة، وأطلق عليه اسم (بلورة الرأي العام) وشرح فيه الفرق بين الإعلان المباشر وبين استخدام العلاقات العامة في الإعلان، حيث لا تقوم العلاقات العامة بمهام الإعلان المباشر، لكنها تقوم بصياغة الرسالة المناسبة لخلق الانطباع وتحفيز السلوك ــ من خلال فهم نفسية الزبون ــ لشراء السلعة أو الخدمة ويتم نشر الموضوع كخبر وليس كإعلان مدفوع وهذا يعني استغلال العوامل النفسية لإجبار الفئة المستهدفة للذهاب في اتجاه معين، حتى لو كان ذلك ضد رغباتهم.
وأعتبر أن النزعة الاستهلاكية وسيلةً لمنح الناس وهم السيطرة على مصائرهم، بينما تتيح الفرصة للنخبة مواصلة إدارة المجتمع، وقد أطلق على هذه العملية اسم هندسة التوافق.

واستخداما لهده الطريقة اجتمع إدوارد بيرنيز في عام 1928م مع أصحاب شركات تصنع السجائر، وطرح عليهم أفكاره لمضاعفة ترويج السجائر، وقد تصادف ذلك مع موجة مطالبة النساء بتحرر المرأة من قيود المجتمع، فلعب إدوارد بيرنيز على هذه الغريزة البشرية، حيث لم يكن معروفا عن النساء قيامهن بالتدخين أمام الناس، وقام بيرنيز بتنظيم مسيرة نسائية أطلق عليها مسيرة (حملة مشاعل الحرية) فاختار لها مجموعة من الفتيات الجميلات ليكن في المقدمة، ثم يقمن بإشعال السجائر خلال المسيرة بطريقة هوليودية، وقد أعد بيرنيز لذلك مجموعة من المصورين المحترفين، لتصوير ذروة الحدث، وكانت تلك السجائر هي مشاعل الحرية عند نساء تلك المسيرة، وبهذا قام بيرنيز ــ وبمكر شديد ــ بربط التدخين بالحرية، مما جعل نساء تلك الأيام يقبلن على التدخين العلني بإعداد كبيرة، ليس حبا في التدخين، ولكن تحديا للمجتمع وتحقيقا للحرية، وهكذا وضع بيرنيز أفكار فرويد النفسية موضع التنفيذ العملي لأغراض تجارية، الأمر الذي لفت إليه أنظار السياسيين، ولم يكن بيرنيز يؤمن بتحقق الديمقراطية، بل كان يرى بأن السماح للجماهير بالتحكم في مصيرها أمر خطير، لأنها تسير مدفوعة بغرائزها، وستصل إلى مرحلة الفوضى المدمرة ــ وهذا ما يحدث حاليا في بلادنا ــ لذلك كانت نصيحة إدوارد بيرنيز للسياسيين حتى يمكنهم السيطرة على البلاد هي ( إعطاء الناس خيارات تذهب بهم إلى الخيار المحدد سلفا، مع إعطاءهم خيارات استهلاكية أخرى تشعرهم بأنهم يملكون حرية القرار ).

شاهد أيضاً

ثلاثة في أسبوع واحد

أحلام محمد الكميشي   كنت أنوي الكتابة عن مصرفنا المركزي المترنح وحقولنا النفطية المغلقة وسياستنا …