منصة الصباح

مدن وماعز

زايد..ناقص

بقلم /جمعة بوكليب

ليس الطبيعة وحدها من ينفر من الفراغ. المدن أيضاً، أو على الأقل بعضها. ولنا في مدينة لانندنو – Llandudno بشمال ويلز خير مثال. فالمدينة تلك بموقعها المتوضع بعناية بين علو ووعورة جبل وغواية زرقة بحر، انبثقت صورها، خلال الأسبوع الماضي، في وسائل الاعلام البريطانية، فجأة، والسبب أن طرقاتها وشوارعها وحدائقها صارت مرتعاً لقطيع من الماعز الجبلي.
التقارير الاعلامية التي نُشِرتْ مرفوقة بصور قطيع الماعز، في لون الثلج، قالت إن القطيع ترك الجبل وأتجه نحو المدينة، متشجعاً بخلو الطرقات والشوارع من السكان، وخاض في حدائقها آكلا لأعشابها، مقتطعاً أغصان شجيراتها، ومستريحاً في فناء كنيستها الخارجي. وأوضحت أن القطيع تعوّد، في السابق، خلال أيام الشتاء الباردة النزول من الجبل، هرباً من قسوة البرد، للاقامة قرب ضواحيها لاجئاً وطالباً للدفء. لكنّه، هذه المرّة، تجاوز الضواحي، ووصل إلى وسط المدينة المهجورة من سكانها، وسرح فرحاً فيما توفر في حدائقها من عشب وشجيرات ومرعى آمن، لا توفّره صخور الجبل.
هذا ما قالته التقارير، والأرجح أنه الأقرب إلى الواقع. لكن ماذا لو رفض بعضنا قبول هذا التفسير الواقعي، وقرر الخوض في مغامرة البحث عن تفسير يتجاوز الواقع لمحدوديته الزمكانية، وضيق أفقه، وفقر خياله، وما يفرضه على العقل من خطوط سير واتجاهات ليس من السهل الخروج عنها، أو تجاهلها. فللواقع قوانينه، وحضوره، وسطوته على العقل.
لذلك، ماذا، مثلاً، لو تجرأنا على تحدي الواقع، بالتفكير خارج علو جدرانه وحدوده، في العلاقة بين المدن والفراغ على نسق التفكير في أُسسِ العلاقة المبنية على نفور الطبيعة من الفراغ، آخذين في الاعتبار الفارق طبعاً؟
ولتوضيح الفكرة أكثر، لايختلف عاقلان حول طبيعة المدن. فمفردة مدينة تستحضر في الذهن، وجود مكان يقيم به بشر، يقومون بنشاطات اقتصادية متعددة يتطلبها عيشهم. إذ لامعنى، بشكل عام، لوجود مدينة بمبان وطرق وشوارع وحوانيت وأسواق ومكتبات ومؤسسات من دون وجود بشر. نفس المنطق يقودنا إلى أن ما تتعرض له مدينة مؤقتاً، من كوارث طبيعية كالاصابة بوباء، مما يؤدي إلى لجوء سكانها إلى عزل أنفسهم خشية من الاصابة تطوعا من انفسهم أو بقوة القانون، ينزع، مؤقتاً، عن تلك المدينة صفتها، ويحيلها إلى مدينة أشباح. بعض المدن تقبل بذلك الوضع، خاصة الكبيرة منها، لعلمها أنه وضع مؤقت، وطبيعة المؤقت أنه زائل. ولكن مدناً أخرى، مثل لانندنو، ترفضه تماماً، أو بالأحرى تتجنب الامتثال له وتتحايل عليه، حتى وإن أدى ذلك إلى أن تعمر طرقها وشوارعها بغير البشر. وعلى سبيل المثال، بأن تغوي قطيعاً من ماعز وحشي جبلي بمغادرة مقر اقامته، في قمة جبل يقع وراء ضواحيها، واستضافته لديها. الاستضافة في حقيقة الأمر، ليس استضافة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها في هذه الحالة، لا تخرج عن كونها حيلة ماكرة، من مدينة ماكرة، لجلب القطيع إليها، ولجعل سكانها يشاهدون القطيع من نوافذ بيوتهم، فيفاجئون ويندهشون، ثم يطيب لأغلبهم، خاصة الشباب منهم أن يغادروا حجرهم الصحي، خارجين إلى ضوء النهار، مما يعني إعادة الحياة والضحكات والكلام والحيوية إلى الطرقات والشوارع، وضخّ الدم في قلب المدينة وجسدها، لتسترد عافيتها، ولتنهض على قدميها، ولتطرد الفراغ، كما تطرده الطبيعة لتأتي بمن أو بما يحلُّ محلّه.
في ليبيا انهار النظام السابق منذ تسع سنين مضت. لكننا لم نتمكن بعدُ من ملء ما تركه من فراغ سياسي، فأستغل الحذاق منّا الفرصة، بمثل ما أستغلها ماعز جبلي في مدينة ويلزية، وليس لنا سوى تحمّل العواقب.

شاهد أيضاً

الأحوال الجوية

توقع المركز الوطني للأرصاد الجوية فرصة سقوط أمطار متوسطة الشدة إلى غزيرة على مناطق الشمال …