منصة الصباح

محيي الدين المحجوب … ضوء يكتظ به الضوء

 

حاوره: مهنَّد شريـفة

جلس مع فكرته وضخ في أوصال أبجديتها معنىً عميق مكّنه من مواساة الجدران الهشّة وكفكفة دموع السماء حين يهتف العاشق أحبك، فالقصيدة لدى شاعرنا محيي الدين المحجوب لا ترتدي أحدًا إلا صوتها وصدى إرتفاعها عن جغرافيا الأرض ،
” من ناره ،من حظ النار
أن فضحتها التفاحة ”
لم ينسى الشاعر أن التفاحة بعدما نجت من مغبة الاحتراق سُرقت ونُكّل بغضبها الأحمر والأرض تميد بنا ففي كل حرف يطأ أوراق هذا الشاعر يُصاب الكون بشهقة لنضع إصبعنا على محبة الله ..إن محيي الدين المحجوب يتفقّد في خطاه إبن عربي وجلال الدين الرومي اللذان حاولا من خلال نصهما عتق الله من الصيغة الكلاسيكية التي نمّطت الله وزجّت به كلاعب داخل أسطورة زيّفها العاديون والمرابون …
” بأيّ ماء أتطهّر من ظلي
هل يضل عني ظلّي ؟ ”
إننا نُبصر تمام الابصار كيف خلقت القصيدة لظلها ساقين ومشت فوق سطح القمر وانتصبت تُخاطب صاحبها بنديّة ندىً … وعبر هذه الفسحة سرّنا أن نلقتي بالشاعر محيي الدين المحجوب نمارس بمعيّته غرقًا تُدوّنه روزنامة الميلاد …
هل خشيتك من الظل جاءت لكونك اكتشفت فجأة أن لظلك لغة موازية ؟
– حاولت قصيدة النثر كسر صمتها عن موضوعات كثيرة كانت تركن في الهامش يهيمن عليها الإهمال، وموضوعة الظّلّ إحدى الموضوعات التي تؤوّل انوجادها المضيء داخل هذه القصيدة. أرى ظلّي مأهولاً بي يمنحني مفاتيح الضّوء، وهو إذ يمنحني هذه المفاتيح إنّما يُحميني من أخطاء الضّوء.. يخطئ الضّوء حين يُصيّر العتمة حقيقة، يخطئ حين لا يُبصر فداحة الفراغ المحدق بنا، ضوءٌ كهذا يمارس الخيانة ضدك، ضوء أسود وملوّث.
ظلّي يُحلّق بلا أجنحةٍ، يمشي بلا قدمين، وأنا أحاول أن أفهم إشاراته إنّما في الحقيقة أمارس كشوفاتي في جوّانية هذه الإشارات.
ببساطة أقول لك: أنّني أحاول كتابة الظّلّ شعريًّا، من هنا فهو ينماز كثيرا عن وجوده على سطر الواقع، وأنت كشاعر إذ ترى الظّل لا ترى صورته، فالصّورة حجاب.
في صغري عرفت الظّلّ في عبور الوقت في مفاصل النّهار، يلوح كساعة تحدّد الزّمن، فقد كان الشّيء الوحيد الذي يفضح تحوّلات الزّمن، وكانت أمّي كلّما أرادت أن تعرف الوقت تأمرني بالوقوف في الشّمس لتتفرّس في ظلّي حيث يكون الظّلّ عقرب السّاعة، في التّعبير الشّعبي الظل يتحرّك، يطول ويقصر، تمامًا كما هو ظلٌّ خفيف وظلٌّ ثقيل كناية عن الظّرافة والبلادة، فانحساره وتمدّده يختزل حركة الزّمن، وهو أيضا يموت، موت الظّل كناية عن انتصاف النّهار، محاولة ذكية لأنسنة الظّلّ والخروج به من تشيّئه، فهو هنا ليس خاضعًا للمعنى القشري / الخارجي، وليس مجرد منطقة معتمة تحجب الصُّور والرّؤى.
من هنا اكتسب رمزيّته وترسّخ بريق صوره عميقًا في ذهنيّتي، استدعاء الشّاعر له في ما بعد ربّما احتماءً به من صلف وقسوة الزّمن.
الظّلال كائنات ترافقنا، تنتبه إلينا، في القصيدة أنا مهتم بالظّلّ لهذا كتبت سيرته، تعلّمت الاحتفاء به، دوّنت تحوّلاته، ولا تستغرب إذا قلت لك يا عزيزي مهند أنّه لجوجٌ يستفزّني لفهم تحوّلاته الصّاعقة وصوره الدّاخلية كي ألمسها بروح المتصوّف لدرجة إحساسي أثناء الكتابة أنّني أُدوّن آلامه، لذلك تجدني في القصيدة لا أميّز بين وجعه ووجعي.
هكذا.. أسرفت جوّانيّتي كثيرا في تعالقها به، وباح النّص بما رأته عين الرّوح، حفر بمتعة في سجفه نازعًا عنه قشرة الضّوء. إذ لا بدّ للظّلّ أن يطلع للضّوء لكي يتحقّق ويصير ظلاًّ.
باختصار.. أنا أعيد داخل القصيدة تشكيل الأشياء وأمنحها تحوّلاتها وحياتها الخاصة.
في سياق نقشك المحموم على جبين الحجر، أما زلت واثقًا بأن الأحجار أصغت إليكَ يومًا ؟
– كتابتي عن الحجر كتابة تبادل العلاقة بين صمته الضّاج ولغتي التي تتجلّى في سموّ حجر رحى أمّي وهو يصغي لأغنية سخيّةٍ بالدّفء. هي كتابة متفجِّرة تتعرّف عن قربٍ على الأشياء المحيطة بنا. وهي أيضا كتابة الهروب من ضغوطات الحياة.
الحجر رمز الصّلابة والانغلاق كان مضيئًا حين أرّخ للحياة الإنسانية، بإمكان حَجرةٍ ادفاق الماء، في قصيدتي “الغمّيضة”، كتبتها عام 1987م، امتلاء بالأشياء والأشخاص مثلما هي معبّأة بدلالات مكثّفة تختزل علاقة الشّاعر بالعالم، نقرأ في القصيدة هذه الجملة الشّعرية: “الصّوان الذي يحبس النّار/ ويحبس الماء”، اجتماع ضدين، نقيضين، السّيولة والجمود، الانسياب والانغلاق، لكنّهما لا يقمعان أو يلغيان بعضهما إنّما يتواشجان في تعالقٍ يسمح لهما بتحقيق انوجادهما.
تأمّلي في الحجر يمنحني قدرة قول الصّمت، ليس استنطاقه غايتي الشّعرية، ولا أن يماثل صمتي صمته.
يمكن القول: أنّ الحجر عنصر مؤسّس لمكاني الخاص، وُلدتُ في منطقةٍ صخريّةٍ قاسية، تنتسب من حيث التّسمية إلى هذه الصّلابة، لم أكن لأشبه هذه البيئة الصّخريّة، عانت طفولتي من قسوتها، وما زياتينها ونخيلها إلاّ حجرة مسٍّ وحالة تعويض لهذه القسوة، وربّما أيضا كوني شاعر استبدل القساوة رهافةً، كان عليها أن تنجب نحاتًا يزيل عن الحجر خشونته ويربت عليه بحنوٍّ بالغ كي تتفجّر أسراره.
لكنّ هذه القسوة والخشونة المكانيّة نتجت عنها حساسيّة كان لها شعراءها وأدباءها وكتابها، حدّثني مرّة صديقي الفنان القدير: عبد الله الزروق عن خشونة وقسوة المكان في بني وليد وكيف أنتج بيئة علمية وثقافية اختزلت رموزها من العلماء والأدباء والكتاب.
الصّخرة والشّاعر آخذان في التّجلّي، شاهدت مرةّ لقاءً ماتعًا مع النّحات التونسي: الطّيب بن الحاج أحمد وهو يربت على أحد تماثيله، كي لا يخونه الحجر، بيد رهيفةٍ حسّاسةٍ، أثار المشهد مخيّلتي التي نحتت يقظتها فكتبت شذرات مبلّلة بماء الرّوح أهديتها له.
في هذه القرية تشكّلت علاقتي مع الحجر، أوّل حجر انتبهت إلى لغته، رحى أمّي، ثمّ شواهد القبور المختلفة الأحجام والأشكال والمتعدّدة الدّلالات،إشارات مثقلة بالمعاني فتحت أمامي غوامضها ومغاليقها، بين المتصوّفة من يسمع نطق الحجر، وها هو محيي الدين بن عربي يقول: “خذ من الحجر تسبيحه”.
نعم.. أكتب عن الحجر لآخذ كلامه، لأفهم صمته كي أقوله،

الحجر الذي عرفه الشّاعر الجاهلي: تميم بن مقبل وتمنّى أن يصيره:
ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجرا
تنمو الحوادث عنه وهو ملموم
بالحجر أشجُّ رأس الكبرياء المغفّلة، أُفكّر بحواس إضافيةٍ، سيظلّ في شراك قصيدتي محاطًا بعناية الشّاعر واهتمامه به.
لهذا أنا أتمنّى مثل الشّاعر تميم أن أصير حجرًا. أمنيةٌ تكبر في داخلي كلّما قست عليّ الحياة.
أحيانًا يلتفت الشاعر لقسوة الوطن كي يُبرر حتمية وجوده داخل الوطن ويتخيل الرسّام أن للزمن لونٌ صارخ/صامت صورته -نحن- ، متى حُوصرت بهذا الالتباس قبلاً ؟
الكتابة حالة التفات دائم تجاه كلّ المكوّنات، وبالتالي تجاه وجودها، وربّما ما يتسامى هو التفات الشّاعر لقسوة الوطن، وهو أفعل التفاتٍ يحاصر الرّوح، نحن نعيش في أزمنة مظلمة الانتماء إليها يربك الشّعرية.
الوطن ليس فقط مكانا ننتمي إليه، إنّه ذلك الضّوء الذي يفيض داخلنا، فهو بيتي، مكاني الخاص، خاص كالحلم، كلّ واحد يرى حلمه لوحده، وبمعنى آخر وطن الشّاعر قصيدته، فهو قصيدتي التي أسكن إليها وتسكنني، ما أفهمه أنّني حين أكتب عنه إنّما أوقظه، أشير إليه في حبيبة، أو وردة، أو كلمة حبٍّ أطرد بها العتمة.
أحيانا ولتحوّلٍ في داخلي، أحاول أن أستدعي الجنين الذي كنته لأفهم الوطن، بهذا المعنى هو الرّحم الذي ينشأ فيه هذا الجنين، غياب الطّفل بداخلي يعجزني عن فهم الأشياء، يربكني، يجعلني جسدًا هشًّا لا روح تلهبه، فالطّفل السّاكن جوّانيتي يمنح قصائدي دهشتها، ويمنحها النّضوج.
اتكئ على قفا الحب وقل ما لك من لعبة ولعنة وما عليك من أثر يُصرّ الزمن على محوه؟
هذه إتّكاءة تشرح الصّدور وتحلُّ عقد الألسنة اللاهجة بالمكابدات، هي تغذّيني روحيًا، بالحبّ أتمرّن على النّظر في الظّلام، الحبّ هو الصّعقُ الذي يبتكره القلب الذي تطارده لعنة العشق، الانصعاق الذي نحتمل اكتواءاته، تربّى خيالي على ترميم تصدّعات هذا القلب، مشيت طويلاً مع قلبي، وردمنا سويًّا فراغاتٍ تشرئبُّ داخلها الكراهية.
وهي إتّكاءة علّمتني أن لا وقت للكُره، هكذا صرت مجذوبًا إلى لعبة جديرة باقتراف الفتنة المحتفية بأنثى تستحم في الموسيقى.
دائما يجبرني القلب على الرّقص في حدائقه، وأن أكون مخطوفًا لتفجّراته، فأنا اكتمل داخل هذا اللعب، لعلّ أهمّها لعبة الكتابة، في مقتبل حياتي كان والدي يُملي عليّ قصائده، ويقضي أيامًا في تنقيح القصيدة، يضيف إليها تارة ويحذف أخرى، أثار استغرابي هذه الاشتغال على النّص، وحين اكتويت بلهيبه أدركتني لذاذة هذه اللّعبة.. نعم أنا اكتمل داخلها، هي لعبة إنتاج خلاّق، فيها أنا في مواجهة كلّ شيء، وفي مواجهة شعريّتي، وبمعزل عن هذه المواجهة فالشّعر مُدان.
الريح تيار نعجز عن تبيان تضاريسه، لكنَّ القصيدة تُوجده على مرأى الموجودات، في أي مناسبة كنت انعكاسا للريح ؟
لا أعتقد أنّ الشّعر عاجز عن تبيان تضاريس الرّيح، شعريا.. أنا أتعامل مع الكائنات والأشياء بذهنية طفل، أعمل على أنسنتها ومنحها الحياة، وبحنوٍّ مفرط أهبها صفات وأفعال بشرية، ولعلّ ذهنية القص الحكائي الشّعبي المشبع بالعجائبي ساهمت في تربية هذا الفهم لديّ، الأشجار تتخلّق كائنات تفهم لماذا تهب الرّيح، وكذا الرّيح سخيّة في حركتها تتنقّل بأجنحتها ناشرةً عزيفها كأغنية، فالرّيح هي ذلك المعنى العصي عن القبض، هذه حقيقة أدركها في القصيدة، وهكذا علّمني الشّعر الارتقاء بالأشياء إلى تكوينات ثريّة بالمشاعر.
الرّيح التي تجلّت للشّاعر العظيم: المتنبّي وحاول أن يوجّهها يمينًا أو شمالاً، ليست هي الرّيح الآبقة التي حاولتُ أن أغلَّها، بين بيت المتنبّي:
على قلقٍ كأنّ الرّيح تحتي
أُسيّرها يمينًا أو ش

وبين سطري الشّعري:
الرّيح آبقة هذه اللّيلة
إليَّ بالأغلال.
علاقة تنسجها الرّيح، ريح قديمة/جديدة،
جاء في الأثر: “الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا” ومن هنا يجيء الموت كتجربة فذة في دورة الأنسان ويمر كل منا بتجربة موته تبعًا لظروف معاشه، فالموت قد يكتسي أبعادًا متباينة كأن تتخذ الشعر معراجًا تتحسس به نور الله أو أن يكون الله مثلاً في قلب حبيبتك مما يُشرِّع لك أبواب السموات في أن يصل المُنتظِرُ للموت قبل وصول الموت إليه، فيحتضن تجلي انبعاثه، كم مرة خضت هذا الانتباه وعُدوت متدثِّرًا بالدهشة ؟
تسألني عن الموت، حسنا أقول لك: أنّني أهزمه بالشّعر، أهزمه وأنا أنظر إلى حلمي، وأهزمه حين أضع الغد بين يدي القصيدة وأمنحه قدرة الاعتراف بالحياة.
لمجرد كونك شاعر، فأنت في الحقيقة تمارسه ضد الموت، فالشاعر يتنفس داخل هذه الممارسة التي تحرّره من العدمية.
قصائدي مليئة بمفردة الموت، أوّل مرّة تعرّفت على هذه الكلمة المرعبة أدركت أنّها تهديد للحياة وإقصاء لكلّ ما هو جميل، فالموت يتخفى في صور عديدة قاتمة وقاتلة، أحيانا يأخذ شكل الجهل والتخلف والمرض، ويبرز في صورة حرب تبرز لسان نواياها ساخرة من الحياة.
حاولت أن أكتب عنه لأفهم جغرافيته وتضاريسه، وأفهم بالتالي تنقّلاته البرزخية، عند المتصوّفة يأخذ الموت صورًا وألوانًا عديدة ومختلفة، حيث نجد الحكيم الصّوفي العظيم: حاتم الأصم قد وضع هذه التّصنيفات، فقال:
“الموت عند الصّالحين أربعة أقسام:
موتٌ أبيض وهو الجوع.
وموتٌ أسود وهو أنْ تحتمل الأذى من النّاس.
وموتٌ أصفر وهو أنْ تخلص في جميع أعمالك.
وموتٌ أخضر وهو طرح الرّقاع بعضها على بعض”

 

شاهد أيضاً

بحضور المدير التنفيذي للمؤسسة الوطنية للإعلام: اختتام الدورة التي اقامتها هيئة الصحافة في مجالات الادارة الحديثة

اختتمت اليوم الخميس 21 نوفمبر بالهيئة العامة للصحافة الدورة التدريبية التي نظمتها الهيئة العامة للصحافة …