زايد ..ناقص
جمعة بوكليب
قبل أيام قليلة من تفجير طائرة بان أم 103 ، فوق بلدة لوكيربي باسكتلنده، في شهر ديسمبر 1988، في طريقها من لندن إلى نيويورك، ومقتل 270 شخصاً، كنتُ أنا قد حططتُ رحالي بلندن. كان الوقتُ شتاءً، وكنتُ في زهو ربيعي، قادماً من طرابلس الغرب، هَرَبَاً من (فردوس!) القذافي الأرضي، متأبطاً ما تبقى من أحلامي، ومتطلعاً إلى بداية حياة جديدة، تعوضني عن تلك التي أغتصبت منّي عنوة. كان ذلك منذ 32 عاماً. وهأنذا الآن، بعد مرور كل تلك السنين، وقد صلت مكتهلاً بَرّ التقاعد بسلام، مستطعماً بحسرة مذاق تلك السنين، بحلوها ومُرّها، وعلى استعداد لمضغ وبلع ما ستضعه الأيام في إنائي من مفاجآت الكهولة وأوجاعها. حياة طويلة، سارت بخطوات متعثرة، في دروب وأنهج عديدة، وفي خطوط منحنية، صُعوداً وهبوطاً، حتى وصلت ذروة قمتها المتوقعة، ثم انعطفت مستدبرة، لتبدأ تدريجياً رحلة الهبوط من القمة، والعودة، بقدمين متعبتين ومترددتين، إلى أوحال وشوائب سفح ترابي. الغريب، أن قضية لوكيربي، خلال كل تلك السنوات، كانت ترافقني في رحلتي ، كخلفية تلقي بظلال كثيفة، تعتّم ما ظل يتألق فيها من بقعات ضوء. أحياناً، كانت تلك الخلفية المعتمة تقفز، فجأة، إلى مقدمة الصورة، لتستحوذ عليها كلية، كلما استحوذت أخبار لوكيربي على عناوين الصحف والنشرات الاخبارية، ولتربك روتين حياتي لفترة من الزمن، تطول وتقصر، حسب الظروف، ثم تختفي فجأة، كما طفت، لتعود إلى مكانها في خلفية الصورة. فأتنفس الصعداء، وأعاود الانشغال بهموم دنياي اليومية، سعياً إلى الحفاظ على توازني الروحي، في واقع مادي يضيّق الخناق على الروح.
وهاهي قضية لوكيربي، تطفو، الآن، بكامل حمولتها على سطح الأحداث، خلال هذة الأيام الأخيرة من عام الوباء 2020، لتزيد في ثقل همومه ، ولتفاقم من شروره، ومن فواجعه، ولتعيدنا، جميعاً، إلى خط البداية مرة أخرى، بعد أن ظننا أننا دفعنا أثمانها مضاعفة ،وتخلصنا منها، وأننا لن نعود مجدداً إلى الوقوع في فخاخها.
قضية لوكيربي، بعودتها المؤخرة هذة، فتحت الأبواب على مصارعها أمام أسئلة كثيرة. ذلك أن قرار السلطات الأمنية الأمريكية بأعادة فتح ملفات القضية من جديد، واعادة ظهور اسم أحد ضباط الأمن سابقاً من المتورطين في التحقيقات الأولية، وامكانية أن يكون هو من فجّر الطائرة، وسعي الجهات الأمنية الامريكية إلى المطالبة بتسليمه، بعد أن تبين وجوده معتقلاً في أحد السجون بليبيا، أمر ليس من السهل استيعابه بسهولة، خاصة بعد نجاح عائلة المرحوم عبد الباسط المقرحي في اقناع السلطات القضائية الاسكتلندية مؤخراً باعادة النظر في أمر أدانته. محامو عائلة المقرحي أدلوا بتصريحات غاضبة، في وسائل الاعلام البريطانية، اتهموا فيها السلطات الأمريكية بفبركة الإدانه الجديدة، بغرض تفويت الفرصة على انعقاد المحكمة، وامكانية اصدار حكم بتبرئة المرحوم المقرحي، عقب ظهور أدلة جديدة.
وكمواطن ليبي لا أستطيع، تحت أي ظروف وأحوال، أن أنسى عمق الجروح المؤلمة التي تركتها لوكيربي في ذاكرات وقلوب 6 مليون مواطن ليبي، ولا ما سببته لهم من آلام ومعاناة. وليس بمقدوري شخصياً، أو بمقدور غيري من الليبيين، كذلك التعامل نفسياً مع هذه العودة غير الحميدة، وفي هذه الظروف غير الطيبة، بعد أن دفعنا أثمانها مضاعفة من أموالنا ومن أعصابنا. والسؤال الذي لا يمكننا تجاهله هو لماذا فكرت السلطات الأمريكية، اعادة فتح ملفات القضية الأن؟ ولماذا لم تترك للقضاء الاسكتلندي فرصة استكمال اجراءاته القانونية أولاً، في الاستئناف المقدّم من عائلة المرحوم المقرحي، واصدار حكمه النهائي؟