محمد الهادي الجزيري
هذه الرواية كاتبها عُماني..، قصيرة تسهل قراءتها ..فمائة صفحة تعدّ قليلة ..ولكنّها مشوقة يخترقها حنين السارد إلى مدن كثيرة مثل صور وعُمان وزنجيبار وغيرها ..من المحطات والاستراحات التي عبرتها أو أناخت بها ” سمحة ” هذه السفينة الأحجية ..إذ لا أحد يعلم مستقرّا لها ..، على كلّ أدعوكم إلى تتبع الحكاية من أوّل ..، منذ أن لمس السارد هذه السفينة وبدأ القصّ :
” لم أعرف إن كنت أربط الحبل أم الحبل يربطني ، كلما اقتربت من الرصيف الخشبي لترسو عليه يزداد الحبل بيننا قوة فيشدني إليها أو يشدها إليّ ، إنها السفينة المختارة ، سفينة اختارتني أم اخترتها ؟ سؤال عبثا أجيب عنه ولكن الصدفة وحدها تعرف فك طلاسم هذا القدر فهي رسوله…”
قسّم الرواية بالأيام الهجرية ..فمثلا الرابع والعشرون من رجب 1378هـ..، يوم وصولهم إلى مسقط ووصف الميناء والسوق وحركة الناس ..، وصف دقيق للحالة العامة التي عليها المدينة ..، ورصد لها من فوق السفينة الرابضة في الميناء ثمّ التجوّل فيها والتحدّث مع أهلها والسكان المنتمين لجهات الأرض :
” انقضت زيارتي الأولى … مسقط المزدحمة بالبشر المتماسكين رغم مظاهر البؤس المحفورة على تجاعيد وجوه بعضهم ، فالبؤس لا يحتاج لترجمان … مسقط بجبالها السّمراء الحارسات، بحرية الأجواء، وجوه متعددة ولهجات شتى ، عبق تاريخ حقيقي…”
وفي حالات كثيرة ..، يحدثّني السارد عن الناس الذين تمرّ بهم السفينة ..، ويبدي احتراما كبيرا لهم ..وأدبا جمّا وهو يصف لنا حياتهم ..فقرهم وكفاحهم ..قناعتهم بالقليل والرضى بما كتبه الله لهم ..، وفي هذه الفقرة ثمّة مقارنة بين علم تزوّد به وبين تجربة خرجوا بها من الحياة :
” هم يجذّفون البحر وأنا أجذف ذاكرتي ، لولا التّعليم لتقاسمنا نفس المصير، عمل شاق وممتع على الأقل بالنّسبة لي، فأنا في معرفة البحر طفل وكل الأمور أنظر إليها بشغف التجربة الأولى، شغف الانفتاح على عوالم أخرى، تطفو على سطح الذاكرة التي لا تخزن سوى صورٍ نمطية ليوميات متشابه ورتيبة ولكنها ممزوجة بالرضى، هل هم راضون؟ أم أنهم ينظرون إلي ويتحسرون على عدم تعلمهم، هل يعرفون أن التجربة تصنع ما لا تصنعه العلوم والمعارف، جلودهم هي كتبهم وقراطيسهم وحبرهم دواته الشمس وريشته الملح ”
وثمّة مقاطع لا يمكن المرور بها ..فهي مشحونة بعظمة الأم وكفاحها .. أقصد الأمّ أينما كانت فهي أصل الأشياء ، اسمعوا ما يقول السارد فيها :
” الشُجاعة الصابرة على ضنك العيش وقلّة الحيلة، في بيتنا الصغير خلف بيت (السركال) الكبير الأبيض ذي الطوابق المتعددة والغرف الكثيرة، ربتني وإخوتي بحكمتها وصبرها وحنانها الذي جعل لبيتنا الصغير غرفا لا تراها العين ولكن تبصرها القلوب، هذه الهدهدة ترفع الى سطح الذاكرة أيام الصبا بكل تفاصيلها…”
ثمّ يعرج بنا السارد إلى حكاية ” عبيد ” كيف صار حرّا وتاجرا ..ليصف لنا الوضع العام الذي كان عليه البلد والجهات المجاورة ..، وممّا ورد على لسانه :
” في ذلك الوقت ، الفقر والحروب القبلية كانت هي السائدة هنا, الأسرى يقتلون ، الصغار لم يرحمهم أحد ، أرشدهم التجار البيض ببيعهم والاستفادة منهم, ثم إن عندي وثائق تثبت أن العرب لم يكونوا هم تجار الرقيق الكبار بل أكثرهم من الأفارقة أنفسهم، وبعض من الأوربيين المنتشرين بكثرة في إفريقيا..”
وفي ختام هذه السفر على متن هذه السفينة ” سمحة ” أعود بكم إلى ما قاله الدكتور سالم بن سعيد العريمي حول الرواية :
” تدور حول قصة واقعية حدثت عام 1959، عن سمحة وهي سفينة من سفن الأسطول البحري الصوري التقليدي، التي غادرت في ذلك الوقت من ميناء صور عام 1958 متجهة صوب البصرة ثم الهند، وفي شهر مايو عام 1959 وعند عودتها من شرق إفريقيا، واقترابها من المنطقة الوسطى في عمان، دخلت سمحة في إعصار مداري هائل ضرب المنطقة في بحر العرب، وهو ما يسمى محليا بـ«ضربة الإكليل» الذي فقدت جراءه العديد من السفن منها سمحة وعلى متنها 141 شخصا من البحارة والمسافرين …وعن التاريخ في الرواية الواقع والتخييل يعتقد العريمي أن ” خالد المخيني ” استطاع بشكل كبير أن يحفظ للأمانة التاريخية مكانتها…