منصة الصباح

رسالة مشطورة

فتحية الجديدي

كانت الساعة تقارب الحادية عشر ليلًا .. لم أستطع الاتصال به, لشيء بسيط, هو أنني لا أحب الوداع .. لم أتصل به ، لأني لو قمت بذلك لتعلثمت وهربت مني الكلمات .. فماذا سأقول له ؟ لا شيء إلا “تصل بسلامة الله ورحلة ميمونة”.
لذا فضلت أن يكون وداعي من خلفه وبطريقتي, فأرسلت رسالة نصية عبر الهاتف, لأتلذذ بإيقاع رد يمكن أن تضاف له كلمات أخرى لا يمكن قولها في مواجهة سمعية.

هذا ما كان مخططاً, إلا أن حاجة ملحة تنامت داخلي لسماع صوته, وهكذا انتقلت الأمور مجرد سلام إلى دعوى قوية للاقتراب.

لم أستطع قول جملة واحدة في رسالة مشطورة لتوديعه حفاظاً على المسافة, فكانت الرسالة الملاذ الوحيدة في ليلتي قبل سفره, وما هوّن الأمر علينا – كونه غير المسؤول عن حالتي -هو أننا نستطيع إعادة تدوير الوقت لصالحنا -– ويصبح لحسابنا وأعتقد أنه سيظل بحوزتنا, قبل أن يعود لأصحابه وفق المعادلة الحياتية الواقعية وظروفها، أن كل الأمور تعود لحالها عندما تفترق الأشخاص ، وتنتهي اللقاءات والشراكة في التوقيت التي تغلب عليها العاطفة .
ولأول مرة أشعر أن الوداع لا يشبه سابقه ، كنت أكتفي بالسلام وشرب فنجان قهوة معاً قبل رحيله وعودته إلى بيته هناك في بلد المهجر.

غادر إلى مكانه حيث يعيش ويهنأ بجلسته ، وإلى حيث يمسك بجرائده ويشاهد التلفاز ويستمتع بالشيء الذي يحبه وهو “متابعة لعبة كرة القدم”

تضعنا حالاتنا في ذهول أمام أنفسنا ونستغرب في ذلك, عندما تتحول عاطفتنا من إيقاعها الخفي إلي آخر أكثر صخبًا ، ولكننا نقيسها من خلال الآخرين –وهذا خطأ حسب اعتقادي -لأنه إذا لم يشعر بها غيرنا تكون ذنباً أو مشكلة وهذا ما انتابني في ليلة لم يخالدني فيها النوم, فبرغم عدم المسؤولية اتجاه الطرف المعني بذلك – وغير المطالب بأي التزام – إلا أنه الرجل الذي كان له وقع في جزء من حياتي لا يمكن نكرانه.

كانت مكاشفة ضرورية مع نفسي للبحث في مكنوني عن ما يحركني وما تمت ترجمته بأن العاطفة أكبر من أي التزام و عقود مبرمة وأي شيء يكبلنا من الداخل ، لهذا أجزم بأن العاطفة أجمل ما يكون في عالمنا ، وبقدر التمتع بها وببهجتها بقدر ألمها ، الشيء الجميل أن خيطاً رفيعاً حقيقياً, واضحاً وملموساً وليس مغلفاً مع آخر, حيث نجد من ينسج خيوطًا مع الآخرين وكأننا في شبكة كاملة يحركها هذا الشيء الجميل, وهي نعمة من الله.

لكن للأسف نحن البشر نصنع من العاطفة حزمة تقيدنا رغم وعينا ونضجنا بها ، فاحترامنا لأنفسنا وللآخرين والأخذ بالاعتبار لمسألة المسافات والخصوصية هي ما تجعلنا قادرين فعلًا على تدويرها ، ولو غاب الأشخاص سيظل هذا الخيط موجوداً لا يمكن إخفائه بأي حال من الأحوال.

فما يأتي من القلب سيكون للقلب ، وستعود العاطفة إلى مكانها وجحرها وتنتهي لعنات الوقت ، والأشياء التي ارتبطت باللقاء ستعود يومًا وما يمكن تأجيله هي عاطفة نبعت من مكامنها بعيدًا عن نكران للذات, في توليفة نجد أنفسنا بها دون المساس بحرية الآخر وعدم اختراق قوانين الإنسان ، ويكفي أن يكون كل منا إنساناً بعاطفته حتى وإن خسر نصفها.

شاهد أيضاً

صلاح البلاد في إصلاح التعليم

للتذكير جيل الخمسينات وانا أحدهم كانت الدولة حديثة العهد وتفتقر للمقومات ، والمجتمع يعاني متلازمة …