منصة الصباح

حداد

ترجمة/ عمر أبوالقاسم الككلي

صعدت السلم الخلفي إلى الشرفة المبيضة تحت شمس مابعد الظهيرة. لم أجسر يوما على دخول ذلك البيت من السلم الأمامي. كنا أقاربهم الفقراء، ونُشِّئنا على احترام البيت والأسرة.

على يسار الشرفة يوجد المطبخ، مبلط وأنيق وبه كافة التجهيزات الحديثة. كانت فتاة هندية قبيحة ذات وجه مرقط بالجدري وثديين مترهلين تغسل بعض الصحون. ترتدي عباءة حمراء قذرة عليها طباعة.

حين رأتني قالت: «مرحبا، رومِش.» ابتدأت بنبرة متألقة ولكنها انتهت إلى نبرة امتثالية بدت أكثر تلاؤما معها.

«مرحبا.» قلت في لطف. «هل هي هنا؟.» وأشرت بإبهامي تجاه غرفة الاستقبال الواقعة في مواجهتي مباشرة.

«نعم. إنها تبكي طوال اليوم، يا ولد. لقد كان الطفل شديد الجاذبية فعلا.» كانت الخادمة الشابة تعود نفسها على لغة البيت.

«هل أستطيع الدخول الآن؟.»

«أجل.» همست. اقتادتني وهي تجفف يديها على عباءتها. كان مطبخها نظيفا ومطهرا، ولكن يبدو أن القذارة برمتها قد التصقت بها. تعالت على أصابع قدميها أمام الباب المُحَصَّر، فتحت فيه إنشا أو اثنين، تطلعت بوجل وقالت بصوت عال: «رومش هنا، سيدة شييلا.»

صدرت تنهيدة من الداخل. فتحت الفتاة الباب وأغلقته خلفي. كانت الستائر مسدلة جميعها، وكانت الغرفة ممتلئة بظلام ساخن عابق بالنشادر والزيت. بعض الضوء الداخل إلى الغرفة من شقوق جهاز التهوية كان كافيا لتمييز شييلا. كانت في مئزر بيتي ليموني سابغ، نصف جالسة نصف متكئة فوق أريكة وردية.

مشيت عبر الأرضية الملمعة بطيئا وصامتا قدر ماأستطيع. حولت عيني من شييلا إلى منضدة بقرب الأريكة. لم أعرف كيف أبدأ.

كانت شييلا هي التي كسرت الصمت. نظرت إلي من فوق إلى تحت في الإضاءة الشحيحة ثم قالت: «يا إلهي، إنك تكبر يا رومش.» ابتسمت والدموع في عينيها. «كيف حالك؟. وحال أمك؟.»

لم تكن شييلا تحب أمي. «جميعهم بخير- جميع من بالبيت بخير.» قلت. «وكيف حالك أنت؟.»

تمكنت من الإتيان بضحكة بسيطة. «مازلت أعيش. خذ كرسيا. لا، لا، ليس الآن. دعني أتأملك. يا إلهي. سوف تصبح شابا وسيما.»

سحبت كرسيا وجلست. في البداية جلست وساقاي متباعدتان. ولكنني شعرت بأن هذا غير لائق واستخفافي إلى حد كبير. لذا ضممت ركبتي وجعلت يدي ترتاحان عليهما في ارتخاء. جلست منتصبا. بعدها نظرت إلى شييلا. ابتسمت.

ثم أخذت تبكي. تناولت المنديل المبلل من على المنضدة. نهضت وسألتها عما إذا كانت تريد نشادرا أو (روم) للإنعاش. هزت رأسها وهي ترتعش ناشجة، وطلبت مني الجلوس بكلمات تقطعها العبرات.

جلست جامدا لا أدري ماذا أفعل.

مسحت عينيها بالمنديل، أخرجت منديلا أكبر من مئزرها البيتي وتمخطت. بعدها ابتسمت. «اعذرني على انهياري بهذا الشكل.» قالت.

كنت على وشك أن أقول: «لا بأس.» ولكنني شعرت بأن في ذلك إزالة للكلفة إلى حد كبير. لذا فتحت فمي وأتيت بغمغمة غير واضحة.

«أنت لم تعرف ابني أبدا، يا رومش.»

«رأيته فقط مرة واحدة.» كذبت، وندمت على الكذبة فورا. لنفترض أنها سألتني أين رأيته أو متى رأيته. في الواقع لم أعرف أن مولود شييلا كان طفلا إلا بعد أن مات وانتشر الخبر.

ولكنها لم تكن بوارد امتحاني. «لدي بعض الصور له.» نادت في صوت متوتر خفيض: «سومنترا.»

فتحت الخادمة الباب. «هل تطلبين شيئا سيدة شييلا؟.»

« أجل، يا سومن.» قالت شييلا(ولاحظت أنها اختصرت اسم الفتاة وهو الأمر الذي لم تقض به العادة). «أجل. أريد صور رافي.» كادت أن تبكي وهي تلفظ الإسم، ولكنها ألقت برأسها إلى الخلف في اللحظة الأخيرة وابتسمت.

حين غادرت سومنترا الغرفة نظرت إلى الجدران. كان يمكنني أن أتبين في العتمة نقش»أميرة في البرج» وصورة نبع يتهادى بزرقته الجميلة بين ضفتين موشاتين بالزهور. كنت أنظر إلى الجدران لتفادي النظر إلى شييلا. لكن عينيها تبعتا عيني واستقرتا على الأميرة في البرج

«تعرف القصة؟.» سألت.

«نعم.»

«انظر إليهم. سيقتلون، تعرف. منذ يومين فقط فهمت الصورة، تعرف. الأطفال. ذلك محزن جدا. وانظر إلى الكلب. لا يفهم شيئا. يرغب، فقط، في الخروج.»

«إنها لصورة محزنة.»

مسحت دمعة من عينها وابتسمت مرة أخرى. «لكن أخبرني يا رومش، كيف تسير معك الأمور بالنسبة للدراسة؟.»

«كالعادة.»

«هل ستسافر؟.»

«إذا ما تفوقت في الامتحانات.»

«ولكن من عادتك أن تتفوق. فرغم كل شيء أبوك ليس غبيا.»

بدا أن الاستمرار في الاستماع سيتخطى الحد المقبول للأنانية. قلت: «لا ترهقي نفسك بالكلام، إذا لم يكن ضروريا.»

أحضرت سومنترا حافظة الصور. كانت حافظة باهظة الثمن مغلفة بالجلد. كان رافي قد صور بشكل متواصل بداية من الوقت الذي سمح له فيه بالخروج إلى الهواء الطلق وحتى الشهر الذي سبق وفاته. توجد له صور في لباس الاستحمام، وهو يحفر في التراب على الساحل الشرقي، الساحل الشمالي والساحل الجنوبي، صور لرافي وقد ألبس ملابس الكارنفال، ألبس ملابس حفلات الشاي، رافي على دراجات الثلاث عجلات، رافي في السيارات، الحقيقية واللعب، رافي صحبة عشرات الناس الذين لا أعرفهم. قلبت الصفحات في تباطؤ مناسب. بين وقت وآخر تميل شييلا أماما وتعلق. «هذا رافي في بيت ذلك الطبيب الأمريكي. شخص رائع. يبدو عذبا، أليس كذلك؟. وانظر إلى هذه: ذلك الطفل جاهز دائما بابتسامته لآلة التصوير. دائما يعرف ما يفعل. كان طفلا صغيرا بالغ الذكاء.»

أخيرا انتهينا من الصور. أخذت شييلا تصبح أكثر صمتا كلما قاربت النهاية. أحسست أنها قد تصفحت الصور مرات عديدة في اليومين الماضيين.

ربت بيدي على ركبتي. نظرت إلى ساعة الحائط والأميرة في البرج. أنقذتني شييلا: «أنا متأكدة من أنك جوعان.»

هززت رأسي  بتردد.

«ستجهز لك سومن شيئا.»

جهزت سومنترا لي شيئا، وأكلت في المطبخ- طعامهم رائع دائما. أعددت نفسي لمواجهة دموع وابتسامات الوداع. لكن عندها جاء الطبيب. كان زوج شييلا ومعروفا لدى الجميع بـ(ـالدكتور). كان طويلا ذا وجه وسيم شاحب بدا الآن متغضنا ومنهكا.

«مرحبا رومش.»

«مرحبا دكتور.»

« كيف حالها.»

«ليست سعيدة جدا.»

«ستكون على ما يرام في بضعة أيام. الصدمة، أنت تعرف. وهي امرأة شديدة الرقة.»

«آمل أن تتجاوز ذلك سريعا.»

ابتسم وربت على كتفي. سحب المصاريع ليمنع الشمس من دخول الشرفة، وجعلني أجلس.

«عرفت ابني؟.»

« قليلا فقط.»

«كان طفلا ممتازا. لقد رغبنا- أو بالأحرى أنا رغبت- في إدخاله إلى مسابقة البقرة والخليج. لكن شييلا لم تهتم بالفكرة.»

لم أجد ما أقوله.

«حين كان في الرابعة، كان يغني، تعرف. جميع أنواع الأغاني. بالإنغليزية والهندية. هل تعرف تلك الأغنية: سأظل أراك؟.»

أشرت بالإيجاب.

«كان يغنيها ويكرر غناءها. حفظ كل كلماتها. من أين لا أدري، ولكنه حفظها. وحتى الآن أنا نفسي لا أحفظ نصف كلماتها. هو كذلك. ألمعي. وهل تعرف أن آخر الكلمات التي قالها لي كانت (سأظل أراك في كافة الأمكنة المألوفة)؟. حين سمعت شييلا بموته نظرت إلي وشرعت في البكاء. (سأظل أراك) قالت.»

لم أنظر إليه.

«ذلك يجعلك تفكر، أليس كذلك؟. يجعلك تفكر في الحياة. هنا الآن. الماضي الغد. هذا يجعلك تفكر في الحياة والموت، أليس كذلك؟. ها أنني أعود إلى فلسفة الأمر. لماذا لا تعطي دروسا للأطفال؟.» سألني فجأة. «يمكنك كسب أطنان من المال بتلك الطريقة. أعرف ولدا يحصل على خمسين دولارا شهريا مقابل إعطاء دروس بعد الظهر مرة في الأسبوع.»

«أنا منشغل بامتحاناتي.»

لم يعر ذلك اهتماما. «قل لي، هل رأيت الصور التي أخذناها لرافي في الكرنفال الأخير؟.» لم يطاوعني قلبي على قول نعم.

«سومن.» صاح. «أحضري حافظة الصور.»

 

(*) V. S. Naipaul ولد في الترينيداد سنة 1932 لأسرة من أصول هندية هندوسية. جاء إلى بريطانيا للدراسة سنة 1950 و أصبح يحمل الجنسية الإنغليزية ومنح لقب سير. حصل على جائزة نوبل سنة 2001. له عدة روايات ومجموعات قصصية و كتب أخرى.

شاهد أيضاً

بحضور المدير التنفيذي للمؤسسة الوطنية للإعلام: اختتام الدورة التي اقامتها هيئة الصحافة في مجالات الادارة الحديثة

اختتمت اليوم الخميس 21 نوفمبر بالهيئة العامة للصحافة الدورة التدريبية التي نظمتها الهيئة العامة للصحافة …