القهوة
فتحية الجديدي
حكايتي معها بدأت في سن مبكرة, حين كنت في المرحلة الثانوية وبالتحديد فترة الامتحانات النهائية والمراهنة على تحدي نفسي للحصول على الشهادة لأعبر من خلالها إلى عالم أتوق إليه وأسمع عنه وأتأمله أحيانًا, حين تتقابل الأحلام والأمنيات مع الاجتهاد والمثابرة وتنسج علاقات من نوع آخر خارج بيئة البيت والأسرة والحي والأهل.
حملت حلمي على أجنحة بيضاء مع قهوتي التي لازلت أتذكرها جيدًا وما سببته لي من الآم في المعدة حينها وشربي لها بإفراط كي لا أنام على كتبي الغثة والسمينة ولا آكل أو أمل من قراءتها كاملة في يوم واحد.
كانت تعدها أمي في بادئ الأمر واعتدت على مذاقها المر من ثم أعددتها بنفسي لتكون أقرب للوسط لأنعم أكثر بطعم يجعلني انتعش بعض الشيء, ولا أحتمل مرارة واحدة لأن نجاحي كان هاجسًا داخليًا ارقني طيلة أسبوعين حتى أنهيتهما بمكابرة كادت أن تفتك بجسدي النحيل حينها.
دخلت العلم الصغير بمعدل نجاح مرتفع وسجلت بكلية كانت نافذة أطللت من خلالها على الحياة التي رسمها الله لي, لأكون أسيرة القهوة مرة أخرى في نظام تعليمي سنوي امتد أربع سنوات وخمس أشهر كمشروع تخرج, ولازالت القهوة تلاحقني في صباحاتي الجامعية ومساءات الدراسة والتحديات الجديدة بظروف مختلفة, عندما لم أجد من يشجعني عدا والدتي البسيطة التي تصحو معي كل يوم لتسلمني بعضًا من المصروف والنصائح التي أحتفظ بها وربما تتعارض مع مواقفي.
كم كان للقهوة مكان في حياتي وباتت المهيمنة على ذاتي في عملي, بعد أن انقلب هدف تناولها من مجرد أداة للصحو إلى وسيلة للهروب من ضغوطات الحياة والعمل لأكثر من خمسة وعشرين عامًا ، اليوم أقف صاغرة في مواجهة قهوتي بعد أن بلغت الخمسين من عمري وبت لا أستطيع التخلي عنها والانسحاب من حضرتها أو نسيانها في أيام الصيام, حيث أجدني أكتب عن مسائها منذ اليوم الأول من أيام شهر رمضان الكريم وأعترف بضعف حيلتي في الانتصار عليها, لأنها أصبحت صيغة متناغمة في يومي ومن أجلها تركت بعض أشغالي, بالرغم من مسؤولياتي, إلا أنني أعوض فقدانها بعزيمة أخرى وهي حبي لعملي رغم كل شيء.