بقلم / جميل حمادة
على الجدار ذاكرة خشبية ما … على الجدار تربض ذاكرة الألوان والأشكال والكائنات.. على هذا الجدار هنا كائن ماضوي .. وهنا كائن عفوي .. هنا كائن وكف من ورق
هنا تنبيء ذاكرة اللون عن مكنوناتها وشعوبها.. ها هنا الأزرق اللازوردي، وهنا الأخضر والأصفر والليلكي والشتائي والبني والأحمر الدموي.. والبرتقال …!
ليس من السهل على ذاكرة اللون أن تحتفظ بشتائك الرمادي .. وأنت ترتدي معطفا أسود، وتمشي تحت زخات المطر على مهل .. وتصفر بموسيقى العراب.. هكذا كأنك رجل المطر، أو كأنك عاشق مهجور لتوك، ومتروك لطيات قديمة في ثوب الذاكرة .. الرمادي..
هكذا.. كأنك عالق على سلم الصدفة… تترك الشتاء لكي تذهب في نزهة صيفية.. إلى شاطيء البحر اللازوردي .. ولكن الشتاء لم ينقض بعد.. إذن تواصل شتاءك خائفا من صقيع الأصدقاء والألوان ومن بھاتة الذاكرة وهي تعبيء الأزل في كؤوس ملموسة لكنها لأصابع ذاكرتك وحدها فحسب. الشتاء يطلق رذاذه السماوي النبيل، ويقول محمود ما شاء الله .. الغيث جاء، فنقول معه؛ جاءك الغيث إذا الغيث همى، يا زمان الوصل بالأندلس..
تخطر فيروز الجميلة عليك الآن، بصوتها الدافيء الحيوي، الذي يمنح الأشياء والأزهار رونقها وعبقها، ويمنح العاشقين أنفاس أحلامهم وأنغام عشقهم، وأيام أخرى في الحب.. تخشى على فيروز الصوت الملائكي، وتعتقد أحيانا أنك فقدت الكثير من أيام عمرك بلا معنى، ذلك لأنها كانت بلا أنغام فيروز، وبلا دفه صوتها، ولكي لا تصل إلى درجة التغزل بالسيدة فيروز، فإنك سوف تخشى على نفسك من زیاد على الأقل، – زياد الذي تحبه – ليس لأن زياد مخيف، ولكن لأنك تحبه.. فزياد الرحباني أسطورة قائمة في ذاته».. كما تخشى أن ت ليس من السهل أن تتواصل مع الأندلس، حيث ثمة معضلة لا بأس بها تكمن في لفظة «الأندلس»، لأنك لا تعرف هل هى عربية أم إسبانية، وحيث أن مجرد ذكرها – أي الأندلس – يترك غصة حارقة في قلبك ولا تغادرك الأشياء بسهولة.. الآن ستدخل القصر الأميري، لترى ولادة وهي تغني، ربما هو قصر الخورنق، وربما بيت ابن زيدون، وربما بيت «ولادة» نفسها . المسألة تغدو الآن أكثر صعوبة، فأنت في الأندلس في القرن السابع عشر، ولا تتحدث الأسبانية .. أو القوطية، وربما كنت من الغجر الذاهبين إلى الأندلس..»؟! سوف تعتبر نفسك ضيفا «أسطوريا » – هنا بمعنى متخيلا»- بلا إسم – ولدى أبوعبدالله الصغير، أو حاكم ما، ولكن لا تستطيع أن تحدد بالضبط من أنت؟! سؤال هائل.. من أنت، وما هي هويتك = بضم الهاء = هذه ليست ندوة أخرى عن الهوية العربية المفقودة.. منذ أبوعبد الله الصغير.. هذه سؤال الأنا.. هل هي موجودة أصلا أم أنها مجرد ذاكرة متعفنة.. وجدها علماء الأركيولوجيا بالصدفة في قبرصغير.. كان يدعى «الوطن العربي»..!
سوف تنبؤك البساتين الأندلسية عن ضياعك المفقودة، وعن فرسك الجميلة النافقة بفعلة سهم من لصوص ليل، وأصدقاء.
والطرقات الآمنة ليلا.. لم تعد كذلك، لأن الآريين دخلوا في عيونك ولعبوا بعقول البلاد.
ربما تغادر إلى مغاني الشعب..تزيح ما تبقى من قطرات الندى عن أوراق الكمثرى العريضة، وأوراق
البرتقال، ثم أوراق الكروم المجعلكة، وأوراق التين الخشنة.. حتى تصل إلى أوراق الورد الجوري الجميل ورائحته المشبعة تعبيء أمعاءك بالشذى، أو تنتقل لتتحسس انوار عشية» الناعمة الندية، وأنت غير مصدق كل هذا الجمال.. ألست في الأندلس التي قال فيها المتنبي:
(( مغاني الشعب طيبا في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان )) ربما هو الوقت المناسب الآن لكي تغادر هذي المغاني، لأنها ليست لك، ولا لأبناء جنسك من العرب العاربة أو العرب المستعربة.. يا لضيعتك وسذاجتك.. حتى تعتقد أنك يمكن يوما أن تستعيدها إلى كتاب الذاكرة الحية في يومياتك المتهاوية بين الهزائم والحنين المستحيل إلى غد مجهول، كان عهدا سحيقا ومضى .. من أنت حتى تعيد الحياة إلى روح معتلة غاربة، .. روح عربية ميتة… هل يمكن أن تعيد الحياة إلى روح ضمرت شرايينها ، وتعفن الدم فيها وصارت القيم فيها تخضع للبيع والشراء .. روح لم تعد العروبة تعني لها شيئا.. ولم يعد المجد، ولا السيف ولا الكرامة ولا الحاضر ولا الروح تعني لها شيئا. روح عربية أضحت مهجرة من روحها العزيزة الشماء..!
سوف تترك الشتاء قريبا بثوبه الرمادي.. لن تحتمله، وأنت ترى أمواج بحره الهائلة تقذف هتافها المضرج برذاذ دموي نحو وجهك، وكأنها تصفعك.. عدا عن الريح المحملة بصقيع أوروبي لا تحبه، ولا تحتمله .. وتتمنى لو كان الصقيع شكلا باردا فقط، دون حقيقة، أي كان يتهيأ لك أنه بارد في شكله، ولكن حين يلمسك.. أو يمر على وجهك لا يكون باردا … يا إله الأفكار الساذجة… أية عبقرية وأية حكاية هي التي تمسك بمخيلتك حتى تريد أن تخرج الأشياء عن نواميسها الطبيعية المألوفة .. كأنك من سلالة الأنبياء..!؟ ألسنا كذلك نقول أننا من سلالة الأنبياء .. أليسوا الشعراء والأنبياء من سلالة واحدة، وكلاهما يلقي الكلام الجميل، ولكن أحدهما يقول كلام العقل، والآخر يقول كلام الحلم والمخيلة… ولكن ليس هذا هو الفارق الوحيد بينهما … فالمسألة يا صاحبي أكثر من ذلك بكثير..!
ستذهب الآن للصيف على شواطىء مالاغا، او غرناطة أو برشلونة أو قرطبة… يا قرطبة أبي عبد الله .. أين أنت وفي أي أرض، وماذا تعملين الآن …!؟