حاورتها/ هاجر محمد
بين باريس والجزائر تعيش السيدة ياسمينة شلالي قصة تتويج أسطوري لنضال سيدة معجونة من نور ونار، ومن هدوء وإعصار. والتي تنقلت بين السجن والمجد في دار السجان نفسه، كما لم يحدث لأمرأة من قبل. وقد تأكد اسمها “ياسمينة”، كعلامة كبرى في عالم الموضة صعب المراس في باريس، وعلى مستوى العالم. وحيث أصبحت عروض الآزياء التي تقدمها في مختلف التظاهرات العالمية المتخصصة، تشكل واحدة من أهم المواعيد المختصة. هذه التي تعلمت “المهنة” داخل سجون المستعمر، لتتسلق بعد تحرير الجزائر إلى قمة هرم الأبداع العالمي، في باريس؛ مكان سجنها ومكان حريتها الإبداعية.
في حوار حول مشوارها المهني، وحول مشاركتها في الثورة الجزائرية، ثم مشاركتها في حراك الشارع الجزائري المنتفض في هذا الوقت، تتحدث السيدة ياسمينة شلالي للصباح عن تجربتها النضالية:
– يجب أن أشدد أولاً على إن مشاركتي في ثورة الجزائر ضد الإحتلال الفرنسي؛ ومهما كانت تداعياتها على شخصي، تظل جد بسيطة ومتواضعة أمام تضحيات آلاف الشهداء الذين سقوا بدمائهم تراب الوطن. ولكن من المهم أيضاً أن نحتفي برمزية وأهمية مشاركة المرأة الجزائرية في حرب التحرير، والتي كانت بالفعل رائدة وحاسمة وجد قوية. لقد حمت ظهر الثوار، ونقلت اليهم السلاح والتمويل والتموين، وشاركت في القتال وزرع القنابل والتظاهر ضد المستعمر…
إي أن المرأة الجزائرية كانت حاضرة في معارك التحرير، وفي مقدمة الصفوف؛ بحيث يؤلمنا اليوم ذلك التجاوز المجحف الذي أحاط بدورها، وأقصاها بعد الاستقلال عن الشراكة في صنع مسار الدولة الوطنية الوليدة.
من طرفي – تواصل ياسمينة للصباح- تم القبض علي مع مجموعة من الفتيات الجزائريات النشطات أثناء الثورة، وقادتنا القوات الفرنسية للسجن في فرنسا. كان عمري حينها ستة عشر عاما؛ وبالتالي تم وضعي في باريس في مؤسسة خاصة بالأحداث، وليس في السجن التقليدي لصغر سني، وذلك من حسن حظي إن جاز التعبير.
في السجن كانت لهم سياسة تعليم السجناء بعض الحرف؛ وقد أخترت من جهتي الحياكة والتطريز وتصميم الأزياء، خاصة وان باريس كانت، ولازالت عاصمة للأزياء والموضة. وللحقيقة تعلمت الكثير خلال هذه الفترة العصيبة، خاصة وأنني كنت مؤهلة لأن اتعلم بسرعة لشغفي بذلك. بعد خروجي من السجن واستقلال الجزائر، أردت ان أساهم في نشر ثقافة هذا الإبداع الذي رأيته يزدهر في فرنسا. كنت أقول لنفسي ولماذا لا تتمتع نساء بلادي، حرائر الجزائر، بكل ما هو جميل ورائع ككل نساء الأرض. ولماذا لا افيد بلادي من هذا الذي تعلمته في ديار الغرب؟ ولكن دون ترك الإخلاص للهوية والمقاومة… أو السماح للغرب الذي انتصرنا عليه من خلال المعارك، أن ينتصر علينا في معركة الهوية. وهو ما كرست له عمري ومشروعي الثقافي كل هذه السنين.
* أبعد من كونه مشروع ثقافي، تحولت عروضك العالمية الى منصة نضالية من أجل الهوية. هل يعني ذلك أن المقاومة محكومة بالاستمرارية؟
– لعل أكبر درس نخرج به من معاركنا مع الاستعمار هو الرغبة في التميز عنه، أن نؤكد وجودنا المستقل؛ وخاصة من الناحية الثقافية. وكانت الجزائر قد ذاقت المر من هذا الجانب بالذات؛ حيث سعى الاستعمار الفرنسي ليس فقط لإحتلال بلادنا، بل لسحق هويتنا، وتحويل الجزائر بالكامل إلى ارض فرنسية وقطعة تابعة لفرنسا؛ والتي كانت تسمي “الجزائر الفرنسية”.
وبالتالي حرص الإستعمار على تدمير الهوية، وإغفال اللغات المحلية سواء العربية او الامازيغية؛ على النحو الذي سادت معه اللغة الفرنسية للأسف على اللسان الجزائري في الدارجة العامية. وبالتالي، وفيما يتعلق ببرنامجي الثقافي/الفني الذي يقصد تصميم الأزياء، ونشر ثقافة الجمال والأناقة، أردت ان التفت، وأحتفي، وأستند إلى المفردة الجزائرية.
هذه التي ادخلتها على ما أطواره بنفسي من إبداع يتعلق بتصميم الأزياء، وفق ما تعلمته وتدربت عليه في باريس؛ في عاصمة الموضة، ومع أكبر رموز مصممي الأزياء في العالم.
ويمكن أن أعتبر نفسي رائدة في هذا المجال؛ وهو المزاوجة بين ما هو تقليدي بحث، وما هو عصري، او ما هو اخر صيحة من صيحات الموضة. سواء من حيث الألوان او أنواع الأقمشة والتفصيلة… أو ما إلى ذلك.
* هذا النوع من الإبداع مكلف جدا، وبالتالي فإن أسعاره مرتفعة، أليس كذلك؟ فهل وصل إبداعك للشارع الجزائري، أو إلى الشارع العربي بشكل عام؟
– ربما ليست هذه نقطة قوتي. بالفعل الإبداع على هذا المستوى مكلف جدا، وبالتالي فأن منتوجه يكون في الأغلب غالي الثمن. وهو وفق هذا المعنى لا يكون متاحا إلا لمن يملك قدرة شرائية كافية. إلا أنه في نفس الوقت يخلق الفرصة لمصممي الأزياء الذين يقصدون السوق بشكل واسع للإقتباس منه.
بحيث يؤثر فيهم، ويأخذون بدورهم في توظيف المفردة الشرقية، التي تصل لمتناول كل سيدة وأن كانت متوسطة الحال. وبالتالي فإن مردود الإبداع، ومهما كانت إنطلاقته نخبوية، سيصل حتما إلى الشارع الواسع بطريقة أو أخرى.
* ماذا عن التكريم الذي خصك به “مهرجان العرس الشرقي في باريس” أثناء الذكرى الخمسون للثورة الجزائرية؟
– ما يمكن أن أؤكد بشأنه هنا، ورغم أنني قد تكللت بنجاحات عالمية كثيرة، ونلت الكثير من التكريم عبر محافل العالم، أنه كان الأقرب لقلبي والذي هزني بعنف بكل المشاعر الجميلة والحميمة التي كانت تشبه مشاعرنا بعد الأنتصار. لقد كان لهذا التكريم الذي خصني به مهرجان العرس الشرقي، كمبدعة وكرمز من رموز المقاومة الوطنية في الذكرى الخمسين لتحرير الجزائر، ووسط زخم من الجموع العربية والجزائرية، طعم خاص واستثنائي. وإنني اشكر السيدة زبيدة شرقي مديرة المهرجان التي كانت وراء هذا الجهد المهم، وهذا الموعد الذي صار نافذة للإبداع العربي في الغرب، على هذه اللحظة المهمة التي نقلتني بحميمية لحضن الأمة.
* كيف تقيمين منتوج عالم الأزياء في العالم العربي؟
– أنا أتمنى أن تدرك الشعوب العربية والإسلامية أننا نستند إلى ذاكرة مشتركة، وانه يجب علينا أن نرعاها بشكل مشترك ومتكامل. أقول هذا لأنني أرى أن ما ينقص حراك الإبداع في هذا الفضاء هو النظرة الشمولية أو “الهم المشترك”، وبالتالي فانا أرى إنه من الضروري الاستناد إلى مشروع عام تشارك فيه مختلف المبدعات والمبدعين العرب في مجال الأزياء. وذلك للتفكير بشكل جماعي في هذا السياق، على النحو الذي يسمح لنا لأن نحفر اليد في اليد، باتجاه إبداع عالمي بإطلاق، تكون فيه قدرة المنافسة العربية في أعلى مستوى.
إن المبدع العربي الذي يريد ان يرتقي إلى مجال العالمية يحتاج حتى الان، لان يتواجد في الفضاءات الغربية، وان ينافس هؤلاء على أرضهم. لماذا لا نخلق نفس الفضاء على أرضنا وفي قلب عواصمنا العربية الجميلة؟
*رأينا لك صوراً وأنت تشاركين في حراك الشارع الجزائري، قبل ن يتوقف جزئيا مع وباء كورونا، هل لا يهدأ المناضل؟
-أنا من الجيل الذي عاش الثورة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي، وألتحق بصفوفها، ودفع ثمنا غاليا ليصنع إنتصارها، وذلك من أجل هدف واحد هو تحرير الجزائر من المستعمر واسترداد الهوية الوطنية. وكان طموحنا ومشروعنا أن نبني جزائر الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والكرامة الوطنية. على أن كل هذا كاد يضيع ويتلاشى….. وحتى انتفاضة هذا الجيل الجديد الذي يقود حراك الشارع الجزائري اليوم. لهذا جئت اتضامن معهم، وأن أقول لهم أننا بهم نستعيد أنفاسنا الثورية، وأملنا في جزائر الحرية والعدالة الاجتماعية التي دفع ثمنها شهداءنا أنهارا من الدماء غطت كل مساحة الوطن.