محمود البوسيفي.
ترتفع في أواخر كل عام ومطلع أخر جديد اسهم المنجمين والمهتمين بالأبراج والتوقعات وتظهر على الشاشة ،صفحات الجرائد والمجلات وأرفف المكتبات، شخصيات ومتابعات وكتب تطرح تنبؤات بانفراجات واحتدامات وتوقعات تبدأ بتقدير الاحتمالات ولا تنتهى عند حد.
يتماهي المنجمون مع وسائل الإعلام فتمتلئ توقعاتهم بانهيارات أرضية، كوارث طبيعية، ومالا يحصى من قتلى بزلازل وبراكين، وحالات تمرد وفوضى، ورحيل فنان ومرض، وقلق رئيس، وعندما يتصادف توافق أحد التوقعات مع حدث حقيقى ينتقل المنجم إلى موقع النجومية ويحصل على بطاقة استضافة إعلامية واسعة ودعوة مستقبلية للحديث عن توقعاته الجديدة.
لكن الأحداث وبعيدًا عن ( كذب المنجمون ولو صدقوا تتجاهل تماما تلك التخرصات وتتاوي محاولاتهم الساذجة لاستنطاق الغيب ما يشهده العالم من تغيرات في حالة الطقس مثلا وتقلب المناخ وشراسة الأعاصير هو بسبب الاحتباس الحراري، وإن أى متتبع للفضائيات مهما كانت درجة تعليمه يعرف أن الصورة المناخية للمستقبل قاتمة…
وأن ذلك يحدث وسيحدث بسبب رفض الولايات المتحدة التوقيع على اتفاقية كيوتو… وأن الأمر لا يحتاج إلى قارئ فلكى للأبراج أو منجم
الأحداث السياسية لاتحتاج هى الأخرى لمعرفة توقعاتها لأية أوهام من أعمال الكهانة والشعوذة، فمسلسل القتل فى العراق وسوريا واليمن واوكرانيا وفلسطين مثلا بلا أفق ، ويمكن لأي طالب في المرحلة المتوسطة أن يؤكد ذلك دون الحاجة إلى اللجوء للتنجيم.
إن الدماء ستواصل تدفقها وإن ذلك يحدث لأن أمريكا ترفض أن تفهم ما لا تريده، توقعات الكرة البلورية وفناجين القهوة وورق اللعب عن موت ملك (تجاوز الثمانين) وأزمة صحية يتعرض لها رئيس يقترب من الثمانين لا تثير سوى الضحك.. حيث يمكن لأى مرض فى مصحة صغيرة أن يؤكد أن الاقتراب من عمر الثمانين يرشح صاحبه للرحيل حتى لو كان يضع على رأسه تاج الملك، أو يحمل فى خزائنه الخاصة الشفرة النووية. قراءة ما يحدث فى عالم اليوم تحتاج إلى الفطنة وليس إلى الشعوذة ، سواء كان ذلك في السياسة أو فى الزراعة أو فى إنتاج القمح والنفط، وخرائط الاحتدامات المرشحة للانفجار تبدو واضحة لأى متتبع للنشرات الإخبارية العالمية ، ولا تحتاج إلى طلاسم تزعم تحسس الغموض. يحكى أن” ليونيد بريجنيف» وكان وهو يتولى أمانة الحزب الشيوعي الذي يقود الاتحاد السوفيتي مدة 18 عامًا يستعين في إدارة قضايا الدولة برجل يقرأ له الغيب (….)، وكان الرئيس الأمريكي خلال دورتين متتاليتين رونالد ريجان لا يقدم على اتخاذ أي قرار مهم قبل الحصول على موافقة رجل لم يكن عضوًا فى مجلس الأمن القومي أو أي جهاز حكومي آخر.. المثير أن كلا الرجلين أصيبا قبل موتهما بداء الزهايمر (الخرف) الذي يفترش منظومة الذاكرة ويدفع المرء إلى ارتكاب حماقات لا يستبعد العلم أن تكون نتائج
بعضها شديدة الفداحة ، فيما، لا تكون الأخرى إلا سقطات تفجر الضحك والشفقة. ويحفل التاريخ بنماذج من المنجمين في جميع الثقافات، وأشهرهم الكاهن الروسي راسبوتين الذي امتدت سطوته من مخدع قيصر روسيا إلى معتقلات الصقيع في سيبيريا.. فيما يغرق البعض في محاولات لم تتوقف منذ قرون لقراءة وتفسير رباعيات نظمها (نوسترا داموس) ، وهو كاهن مسيحى من أصل يهودي اعتنقت عائلته المسيحية هربا من محاكم التفتيش وتصادف أن تماثلت بعض تلك الرباعيات مع أحداث لاحقة لم يكن مستبعدا عدم احتمال حدوثها.. كالكوارث الطبيعية وانقلابات القصور وموت ملوكها أو وصول قس من بلاد بعيدة إلى أن يصبح كاردنيالاً ويخرج باسمه الدخان الأبيض من مدخنة الفاتيكان ويصبح بابا للمسيحيين الكاثوليك.
العالم يخلو تماما من المعجزات اللهم إلا ما يصنعه العلم من إنجازات باهرة تسجل كل يوم انتصارا للعقل البشرى، وتؤكد على جدارته بإدارة أمور الحياة دون تجن على
مناطق الوجدان الذى يحمل عبء التوازن وسط شبكة التعقيدات التي تعصف بالعلاقات بين البشر والدول.
ترتيب التفهم المشترك وأنسنة العلاقات بين العقل والوجدان من حسن التدبير ، وهما دعوة لبناء الطمأنينة وتوافر الرضا فى مواجهة تنطع الجهل، الأب الشرعى للتطرف ، وهو المسئول الأول عن جميع الانكسارات التي عانت منها البشرية في ملحمة تعميرها للأرض.
التوافق بين العقل والوجدان مسألة يستوجبها الإيمان باستمرار الحياة فوق الأرض.. وأى خلل فى معادلة التوافق لن تقود كما تؤكد جميع شواهد التاريخ إلا مصائب يمكن معرفة بدايتها لكن لا أحد بمن في ذلك (مافيا) التنجيم يملك القدرة على تحديد نهايتها.
إن شبح راسبوتين يفتك بجماجم العجزة من الباحثين عن مصباح علاء الدين الأسطورى ، أو طاقية الإخفاء أو بساط الريح ، على الأقل تعويذة أو تميمة لا تعكس إلا الهشاشة والخواء.
لا تحتاج فلسطين إلى مشعوذ يقول: إن الاقتتال بين أهلها جريمة يشترك في تدبيرها المؤامرة والجهل.. بالضبط مثلما لاتحتاج العراق وسوريا وليبيا واليمن إلى دجال يقول إن القتل اليومى مستمر بين الأخ وأخيه.
كل العالم يعرف تماما أن الغزاة الصهاينة هم أس المشكلة في فلسطين، وأن الأمريكان هم سبب البلاء فى العراق، وأن العرب الذين تم تدجينهم بالهزائم والقمع مستمرون فى ابتلاع المهانة وهضمها وإعادة إنتاجها.. تطرفا وقنوات غنائية.. ونوما يشبه الموت.