بقلم / سعاد الوحيدي
ثمة “حكمة” عسكرية عميقة المعنى، وذات أهمية استراتجية كبرى في مواقع القتال، تقول:”إذا كانت الطريق على ما يرام، فأعلم بأنك في كمين”.! ليبيا كادت أن تقع بكل ما فيها، في كمين كورونا بائسة الذكر. وقد بدأت الأمور هادئة دون ذرة سحاب تعكر صفو سماء بلد مشحونة بالحرب، وخطابات الكراهية، وتقاتل الأخوة. فلم تسجل ليبيا إصابة واحدة رغم اكتساح الفيروس لكوكب الأرض بأسره. وصارت بلادنا تتصدر التحليلات العالمية باعتبارها نموذجاً غرائبي الصيرورة، تدخلت الحرب الطاحنة على ترابه لتشكل له سداً معنياً، صد عنه غزو الفيروسات…والجائحات، وكوارث الكون. لأن ما فعله بها أبنائها أغلق مطاراتها، ومطارات العالم أمام طائراتها…(وقد صارت مصدراً لكل خطر). الذي بما جعلها اليوم البلد اليتيم في العالم الذي لا تحط عند بابه الرحال. وهو الأمر ذاته، الذي صورها خلال هنيهة من زمن الغفو الليبي، وكأنها البقعة الكونية الوحيدة التي لم تطأها قدم كورونا، والمحطة التي لن يكون هناك أفضل منها لكل من يريد الفرار من جحيم الوباء في بلدان الشمال/كما الشرق أو الغرب..
ولم يعد عجيباً أن يرى الأصدقاء وجودي في ليبيا، (في هذه الساعات المفجعة، الأقرب لمناخ كابوس نهاية العالم)، حظاً كبيراً. وإن الخطر ليس أن أكون في طرابلس، المحاصرة بحروب طاحنة، ولكن أن أكون في باريس. حيث أخذت كورونا تحصد الأرواح دون رحمة، وحيث تحولت المدينة الى سجن كبير، محكوم فيها على السكان بالإقامة الجبرية. فإن ما سوقه الموقف الرسمي في ليبيا تجاه جائحة لاكورونا للعالم، يرسم البلاد والعباد في مأمن من أخطار هذه القنبلة الذرية/ العالمية بامتياز. وكأن رمادها النووي، وهو يمر عبر سماء بلادنا، لا يجرؤ على أن يسقط فوق رؤوسنا ذرة فيروس.
ولكن…فجأة لم تعد ليبيا دون كورونا، وتبين خطأ استراتجيات مسؤولينا المترددة حيال التصدي (بالوقاية الصارمة ككل بلدان العالم)، لهذه الجائحة رغم تحذيرات خبراء الشأن. وبات الأمر واضحاً للعيان أننا أخذنا نسقط في فخ الكمين اللعين. وقد أرتسمت الكارثة على وجه القمر، وصار كل ليبي اليوم على وعي بفداحة الأمر. ولكن … يبقى مع ذلك جزءاً مختفياً من ذات القمر، (ليس في ليبيا فقط، ولكن في كافة آفاق الارض، حيث كشرت البشرية عن أنياب بشعة، وحيث صارت الدول تنافس الأفراد في السرقة والنهب، أو قتل المرضى وتجاهل المسنين …)، إنه الجزء المظلم من الكوكب. هنالك تقبع التفاصيل غير البريئة، والتي لا يجروء أحد على الحفر بشأنها. وقد لفتها العتمة، وتكدست حولها المخاوف والأخطار. من ذلك إذرهار نشاط تجار الموت والحروب، وتفاقم الهوة بين ما يصل للاغنياء وما يصل للفقراء من عناية، … ومن ذلك تعاسة الموقف العام في بعض بقاع الأرض، من “المؤنت”/ في هذه الكارثة الإنسانية الفاجعة؛ موضوع هذه المقاربة .
في ليبيا، حيث نهضت السلطات فجأة من درجة “اللا” إهتمام، إلى الإهتمام الأعلى، ما أنفكت تصدمنا صور المسؤولين المتابعين لأمر الوباء. وذلك من رموز أعلى هرم الدولة، إلى الرموز الأقل مسؤولية، في غياب/أو تغييب كامل للمرأة!!!
وكأن كورونا ليست أكثر من هم ذكوري خاص. وإن الرجال وحدهم من يملك خيوط الفك والربط، وخطط التصدي والمواجهة…. تجاه جائحة هزمت خرائط العالم، وسياسات دفاع اعتى القوى، واستهانت بكل الأسلحة التقليدية كما النووية، والبرية كما البحرية. وأكتسحت الحدود والثغور، وفتكت بفقراء وأغنياء وزعماء وقادة جيوش.. وانهارت أمامها قصور الملوك، والرؤساء، وأرعبت كل السلطات. عابرة القارات هذه، والأراضي والسحب والبحار، وضعت الإنسانية بأسرها أمام حقيقة جامعة، أن لا أحد، ولا دولة، ولا عرق أو جنس، … يمكن له أن يتصدى لها بمفرده. وأن ذلك يستند الى مسؤولية جماعية/جامعة، يتشارك فيها كل الناس، وكل الأمم… حيث تتساوى أهمية أقل الأفراد قوة، أو مركز، في خلق خط الدفاع الضروري …
وأقول : وخاصة النساء. اللآتي يشكلن دون شك، حيال هذه الجائحة الجامحة، خط الدفاع الأول/ والأهم لكل أمة…وأن تغييب الرئاسة في ليبيا للمرأة في قرارات ولجان، وأجندات العمل على التصدي لها، يتسجل بحق كخطأ تاريخي فادح، أبعد من موضوع أهمية تمكين المرأة /أو عدم تمكينها.
إن مُصاب النساء في الفضاء الثقافي العربي، في سياق هذا الوباء بالذات، يحتاج لتعامل خاص، هو من شأن المرأة ذاتها. وقد تأكدت الأخبار من بعض المناطق العربية، ذات الظروف المشابهة لليبيا، أن الأهل يفضلون قتل إبنتهم المصابة بالفيروس، على السماح للسلطات بنقلها للحجر الصحي. (سجلت الجهات الحقوقية في العراق على سبيل المثال، حوادث قتل للمصابات، وتصدي للسلطات لمنع حجر المرأة في عزلة طبية خارج بيتها. متحججين بإن الثقافة لا تسمح بأن تبتعد المرأة عن بيتها، أو أن تبقى بمعزل/ أو في حضور غير المحارم)، وهنا لم نسمع بإي جهة دينية نهضت لمعارضة مثل هذه المواقف …، حيث يتشارك الجميع في ثقافة قروسطية ترى أن موت المرأة، إن لم يكن قتلاً على أيدي الأهل، فبتركها تحت رحمة الوباء، أفضل من السماح بعلاجها في عزلة بعيدة عن البيت، وعلى أيدي غير محرم.
ورغم إن بعض الأسر الغنية قد تهيء للنساء أماكن حجر خاصة، لكنها في مناطق الفقر والعوز، إن لم تٰقتل، فأنها قد تموت ببطء، وقد تصبح القنبلة الموقوتة الناقلة لكل من حولها ذات الوباء، لأن هناك من حال دون منعها ذلك عمن تحب.
لقد تسللت كورونا لتهدد كل النساء، كما هي تهدد كل الرجال. وماتت منهن أميرات، وطبيبات وعاملات وفلاحات او فنانات ورياضيات….وتهددت ملكات، ورئيسات دول، وصار العالم ينتظر للوباء بعيون أممية، لا تفرق بين بصر المرأة، أو بصر الرجل. وهو ما يجعل سؤالاً حائراً يفرض نفسه هنا بوجع شديد المرارة : لماذا تصر السلطات في ليبيا على إعتماد نظرة قاصرة/ قصيرة النظر؟ وأن تستند في كافة قرارات الدولة المصيرية الى ذكوريّة بائسة، قد تقودنا نحو مجاهل ذات نتائج وخيمة.
المرأة في ليبيا ضحية الحرب الاولى، وضحية النزوح الاولى، والتي تعاني بكل أحمالها الاسرية من وجع ما يتهدد ليبيا بكاملها. وحيث قرر الرجال دون أن يستشيرونها، ما يجب عليها أن تعيشه من معاناة، وما يجب أن يسقط فوق رأسها من شظايا وقنابل، وما يجب أن تعانيه من بؤس وتهجير وخذلان أمة. والتي يتم تغييبها في كافة المحافل، والزيارات، والمداولات الرسمية وغير الرسمية، حيث ما فتئت تطل علينا صور الرجال الكئيبة منفردين بالمشهد/كل المشهد، وكأن ليبيا أسم مذكر؟!! هولاء الذين يتعاملون اليوم مع الكارثة، وكأن كورونا اسم مذكر…
وعن “مؤنت الوجع” لا أدري لماذا يكتسح رأسي في هذه الساعات الكئيبة، ما همس به محمود درويش لحبيبته “ذات غربة”: “إنك تشبهين الهوية حين أكون غريباً”. ووددت لو أنه يسمعني الحين أصرخ: إنهم يسلبونني “الهوية” ذاتها، وأنا في قلب الوطن.