بقلم / سعاد الوحيدي
عندما دعتني البروفسورة فرانسواز أوبان، عملاقة الدراسات الصينية (بالمركز القومي للبحوث العلمية)، للالتحاق بمجموعة البحث التي تقودها حول “الاسلام في الصين”، لم أكن أتصور عندها أن ذلك سيحدث تحولاً نوعيا في عملي الأكاديمي، واهتماماتي البحثية التالية.
كان الامر في البداية على سبيل الاستعارة (من مجموعة أبحاث أخرى)، لمعالجة عدداً من المخطوطات العربية، عُثر عليها لدى المسلمين في الصين، ولكن سرعان ما سيتبين لي إن هذه الاستعارة المؤقتة، ستصير مؤبدة. وإني سأنخرط بشكل نهائي، في مبحث الأقليات المسلمة، والفكر الإسلامي في الصين، هذا الذي وقف حاجز اللغة امام اندماجه “عضوياً” في كثلة الفكر العربي الاسلامي، لفترة غير قصيرة.
وكان له أن يتطور بذاته، في عزلة جغرافية ولغوية عن الفضاء الفكري الإسلامي، ولكن دون أن يخرج عنه، أو يتعارض معه، بل على العكس كان له أن ينسج إضافات مهمة، ساهمت في إثراء هذا الفكر على نحو عميق.
في هذا الصدد، ستفتح أحدى تلك المخطوطات، الباب أمام اكتشاف علمي مهم، سمح بتسلط الضوء على دور الفلاسفة المسلمين في الصين، في تطوير الفكر الفلسفي الإسلامي الصوفي بالذات، وكيف أن إرث “أبن عربي”، الذي وجد مقاومة كبيرة في ديار العرب، (حتى أن قبره قد تحول الى مزبلة في دمشق. وأفتى بحقه “ابن خلدون”، وهو أكثر علماء العرب موضوعية في حينها، بضرورة غسل كتبه بالماء والصابون قبل أحراقها “لإذهاب أعيانها”، كما يقول)، سيجد في الصين أرضاً خصبة، ينمو في حضنها، وينهل من إرثها. وإن يتطور على نحو استثنائي، من فكر تستر بالرموز، الى فلسفة مُعلنة، ونظرية متكاملة على يد مفكري الاسلام في الصين.
كان المخطوط يضم ترجمة عربية راقية لكتاب “فلسفة الإسلام” للمفكر المسلم “ليو تشي” (حوالي ١٦٦٢/١٧٢٦)، أنجزها خليفته “ماليان يوان” قرابة قرن بعد وفاته. ( وقد ادرك أهمية نقل الفكر الإسلامي المكتوب بالصينية، للعربية). وهو الكشف الذي سمح بربط فكر “ليو تشي” بمرجعياته الإسلامية، وبجذوره في فكر ابن عربي بالذات. ( حظي كتاب “فلسفة الاسلام” باهتمام عالمي، وترجم للعديد من اللغات، غير أنه صُور باعتباره مبحثاً نيوكنفوشيوسي، ولتعذر فهمهم لمرجعياته قبل العثور عن هذه النسخة العربية). وهو الكشف الذي أبرز من ناحية أخرى، قدرة الفكر الاسلامي الصيني، على بلورة التصورات الرمزية الصوفية، في نظرية فلسفية واضحة المعالم. (وتفيد الإشارة هنا إلى الصينيين المسلميين من الخوي، الذين لا يتميزون عن بقية الصينيين الا وفق انتمائهم للإسلام).
حيث يطرز “ليو تشي” في “فلسفة الإسلام” مبحث وحدة الوجود، ونظرية الانسان الكامل (الموروث عن إبن عربي)، في نسق فلسفي استثنائي، حظى بقبول كبير لدى الصينيين. وانتشر كمؤلف توافقي، يوضح الإسلام كعقيدة متصالحة مع الموروث الأخلاقي الصيني، وإن كان هذا لا يأبه بالميتافزيقيا. (استمد كونفوشيوس من إرث الماضي، فكرته عن الناموس الخلقي الطبيعي/ الإرث الذي يملك بالنسبة له، شرعية مطلقة، والمتوارث عن ياو وشون). كتب الإمبراطور في تقديمه للكتاب: “كثيراً ما تعرضت الكونفوشيوسية العريقة، لمحاولات التقويض من طرف البوذية والتأوية. ولكن ها نحن هنا مع كتاب “ليو تشي”، نجد أنفسنا مرة أخرى على هدى حكمائنا القدماء ياو وشون وكنفوشيوس. هكذا فإن كتابه، ورغم أنه يقدم لعقيدة الإسلام، هو يضيء بحق مذهب الكنفوشيوسية”.
ونخلص هنا، إلى إن الإرث الفكري لمسلمي الصين، هو جزء لا يتجزأ من فكر الأمة، بل هو رافد كبير لصيرورة هذا الفكر. وانه من المجحف ان لا يُذكر مفكري الإسلام في الصين مثل “ليو تشي” او “ماتونغ” او “ماليان يوان”….كما يُذكر “ابن سينا” او “الفارابي” او “ابن رشد”، رغم إن جميعهم فلاسفة مسلمين، بنفس القدر والأهمية.