السؤال الذي يشغلنا جميعا بعد البهجة بتوقف الإبادة في غزة، هو التوقيت تحديدا: لماذا توقفت الحرب الآن وليس قبل شهرين أو بعد شهرين؟
الإجابة تقتضي التفكير في عمق الاسباب التي غيرت حسابات جميع الأطراف في اللحظة ذاتها، وهو ما جعل وقف النار مصلحة مشتركة لأول مرة منذ بداية القتال.
هناك اولا ما يسمى في الصراعات وما يقود عادة للتفاوض ( الانسداد المؤلم ) حيث يصل الصراع إلى نقطة يشعر فيها الطرفان أن الاستمرار يكلّفهما أكثر مما يكسبهما، وتفقد الحرب معناها.
منذ عام تقريبا، قال المستشار الالماني انه لا يفهم سبب استمرار الحرب فاسرائيل لم تعد العمليات العسكرية تحقق لها اي مكاسب حقيقية، ويخرج قادتها بمزاعم ان حماس فقدت السيطرة وانتهت، لكي يشرحو نجاحهم وهو ما كان يؤدي لترسيخ سؤال طبيعي؛ إذا متى ستتوقف إذا هزم عدوك فعلا!؟
وخلصك وإن الرهائن لم يعودوا بعد، ومن جهتها حماس استنزفت بشريا وتنظيميا لكنها احتفظت بورقة الأسرى، وهي الورقة الوحيدة التي تجبر الطرف الآخر على التفاوض.
ولا ريب ان الدور الأمريكي هذه المرة كان مختلفا تماما. لم تتحدث – ولاول مرة – واشنطن عن هدنة بل عن خطة، وبحسب قناة الجزيرة نفسها، فالحديث اعادة الكهرباء وإصلاح الطرق، بل حفر آبار لمياه الشرب، وهذا يخالف الهدن السابقة التي كانت تعني وقف إطلاق النتر لا غير.
واليوم نحن امام خطة تفصيلية تتضمن ضمانات أمنية مكتوبة، وآليات مراقبة دولية، وحتى مشاركة عسكرية أمريكية محدودة لضمان تطبيق الاتفاق. هذا التصميم المحكم للاتفاق جعله أكثر قابلية للصمود من الهدن الهشة التي شهدناها سابقًا.
ولابد من ذكر انه لاول مرة مطلقا في تاريخ الصراع تتحدث وتسمح امريكا بالحديث عن قوة اجنبية داخل فلسطين التاريخية. فحتى قوات حفظ السلام في سيناء تختلف جوهريا سياسيا وسياديا عن وجود قوات محايدة في غزة بالنسبة لليهود اولا
ثم هناك قضية الرهائن وهي قنبلة سياسية موقوتة. فبقاء الرهائن مع الاصرار على انهيار حماس، لم يعد محتملًا شعبيا،
وهكذا فالحل الطبيعي هو تقديم الهدنة كـ”نصر مرحلي” مع الوعد باستكمال الحرب لاحقًا ان احتجنا.
هذا خطاب مزدوج أعطى نينتنياهو ح سياسيا، ووفر لحماس غطاء لقبول الاتفاق تحت شعار “الصمود وتحرير الأسرى”.
لنتذكر ايضا وصف الرئيس المصري لإسرائيل بـ”العدو” لاول مرة من اقل من نصف قرن، وتقارير عن تململ في الجيش المصري من بشاعة الإبادة في غزة. وزاد قلق مصر على أمن سيناء ومعبر رفح، والأردن بات يرى موجات اللجوء من الضفة رأي العين.
كما ان دول الخليج تريد استقرارا يحمي مشاريعها الاقتصادية.
كما لن يكون للتغيير في لبنان بعد “الاغاني” عن تحييد حزب الله من معنى مع حرب غزة. وبقاء احتمالات فتح جبهة شمالية مجددا.
كل هذه الاسباب الاقليمية مارست ضغوطا متصاعدة لكنها حاسمة لدفع المتحاربين نحو الاتفاق، استمرار الحرب كان يهدد الجميع. ونذكّر مجددا ان هذا بعد فقد المبررات فعلا للجميع.
والاقتصاد لا يسكن في الهامش. اسرائيل تحوّل اقتصادها إلى اقتصاد حرب مع تباطؤ النمو وهروب الاستثمارات، والتكاليف المباشرة للحرب تتفاقم يوميا، ورأس المال يشتكي بغضب يرتفع صداه.
المؤكد بلاشك ان التهديدات القانونية الدولية من المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية، لم تعد مجرد إجراءات رمزية بل باتت تمثّل خطرا حقيقيا على قادة سياسيين وعسكريين. عندما تقول بولندا انها ستستقبل نينتنياهو فهذا يكفي وحده لتقرير ان استقباله ليس امرا عاديا. انه مزيج من الضغط المالي والقانوني يفاقم كلفة استمرار الحرب إلى مستويات خانقة.
وكما اسلفنا فالاتفاق نفسه ليس مجرد وقف إطلاق نار، بل حزمة معقدة من الترتيبات: تبادل تدريجي للأسرى، انسحاب عسكري مرحلي، ممرات إنسانية واسعة، وآليات رقابة دولية. بحسب ما تذكره رويترز، ثم قناة الجزيرة عن قادة حماس انفسهم.
هذا الوضع يعطي الاتفاق قوة أكبر من الهدن السابقة، بل يجعلها غير ذات علاقة بها؟ حتى وان كان يترك أسئلة كبرى مثل: من سيحكم غزة؟ ما مصير حماس العسكري؟ كيف ستتم إعادة الإعمار؟
في النهاية، الهدنة حصلت الآن لأن خمسة عوامل تقاطعت في اللحظة ذاتها: استنزاف عسكري متبادل، هيمنة ورقة الأسرى، ضغط أمريكي منظم، تخوّف إقليمي من اتساع الحريق، وتكلفة اقتصادية وقانونية متصاعدة.
هكذا تتقاطع كل هذه الخيوط معا، ليصبح وقف النار ضرورة لا خيارًا.
ومع هذا فتصور نهاية صراع تاريخي وجودي مثل هذا سذاجة فاقعة، لكن السؤال المنطقي: كيف ستستمر استراحة المحارب، والى متى !؟ ان مشروع أبراهام – او اشتقاقاته، هو ما سيقود المرحلة القادمة؟
الأيام القادمة وحدها ستجيب.