هبَة الله للأرض نساء
محمد الهادي الجزيري
” الآن.. أستعيدني كما كنت طفلة قبل أن تشوّهني عوالم الكبار، سأحتفي بالحياة وحدي وسأعيد ترتيب العالم وحدي وسأدفن خساراتي وحدي ”
بهذا المقطع من رواية ” هبة الله للأرض نساء ” للكاتبة التونسية نجاة إدهان ..نفتتح قراءتنا لمتن سرديّ جريء ..يتمحور حول المرأة وحقوقها ونضالها المستميت من أجل حيازة مكانة تستحقها بعد دهور من الاقصاء والتهميش..، نصّ الرواية عن امرأة لا مثيل لها وجدت نفسها بعد مشروع زواج فاشل ..كانت نهايته الطلاق، وكي تسترجع ذاتها وكرامتها ونفوذها …لكي تستردّ ما ضيّعته من نفسها في دهاليز الدنيا ..كان أن حاولت أن تشفى من كلّ ذلك الماضي ..وأن تتعافى من كامل تجربتها القاسية ..فحاولت بكلّ وسعها تبديل سير حياتها وعنوانها ومحيطها الاجتماعي ..بل حاولت الشيء نفسه مع اسمها ..فكنّا في تجربة استثنائية طوال الراوية مع كائن جديد …
” ..مدّ يده وفتح الباب بعنف، لم يبق إلا أن أغادر، التفتّ حولي، أضواء الشارع شاحبة والصمت مرعب وأنا في كامل أناقتي، لم أصدّق وأنا أرى السيّارة تنطلق، كيف يتركني في الشارع في مثل هذا الوقت ..”
تطرح نجاة إدهان عذابات المرأة عموما والنموذج الذي اختارته للكتابة عنه ..، وتمعن في جسّ الجرح والضغط عليه ليس للتعافي بل ينزّ دما ومجازات كثيرة عن علاقة الرجل بالمرأة في عصر تغيّر كليّا ..في حين أنّ عقليّة الرجل ما تزال كما هي …، تحاول جاهدة الوجود بجانبه ولكنّه يأبى أن يراها كذلك ..بل لعلّه لا يراها ..لأنّها تطرح إشكاليات كثيرة ومرفوضة من قبل الرجل ..ومن قِبل المجتمع الذي يرفض مجرّد طرحها أو الحديث عنها وقد لاقت مصير كلّ امرأة حرّة لها أنفة وكبرياء وكرامة …
” ما عاد فيك شيء يعجبني ” جملة قالها الرجل ..وقالها ضمنيا المجتمع الذكوري لكلّ كائن يرفض الانصياع لمشيئته..، وهنا وجدت الساردة اللغة والمعنى لكي تكتب كلّ شيء وكلّ شعور راودها ..خصوصا في فورتها وثورتها ضدّ هذا النموذج الاجتماعي المسيطر عليها وعلى النساء بنات جنسها ..، ألم تقل للقارئ والمتابع والقريب والبعيد ..: ارفع يدك عنّي ..، في انعتاقها وتكسيرها لكلّ القيود ..لقد قالت بصدق وصلابة وجدية : أنا لا أنتمي لأحد ، فلعلّ المتخبّطين في التقاليد البالية يفقهون هذا الكلام الشبيه بالصرخة المدويّة ..
” عرفت معنى أن تخاف وأنت في شوارع وطنك، ليلتها عرفت معنى أن تسجن مع قاتلك في غرفة واحدة،..حين وصلت إلى البيت كان نائما، فكّرت في أن أوقظه وأخبره بكلّ ما أشعر به تجاهه لكنّي تراجعت، لا حاجة إلى الكلام حين يضحي القلب خرابا، كلّ ما فعلته هو أنّني انتظرت الصباح لأغادر، عدت إلى مكاني الطبيعي، إلى بيت والدي ”
القصة المدسوسة في الرواية ..قصة معروفة مرّت بها ملايين النساء ..ولكنّ نجاة إدهان لوّنتها بألوانها العربية والتونسية ..ثمّ بلونها الإنساني ..، فوردت حكاية انفصالها وارتباطها بآخر ..، انتقالها من الفشل إلى النجاح والإيمان بالذات والغد الأفضل..، أعتقد أنّ هذه الرواية متاحة خاصة للمرأة المعنّفة المضروبة المستهدفة في كرامتها ..، إذ فيها درس قويّ وفيها روح المغامرة ..أليست الحياة مبنية على المغامرة والبحث عن السكينة والسعادة مهما كلّف الأمر ..، وفي هذا المقطع الحواري المقتطع من صفحة 54 ..بداية علاقتها بوليد وتململها النفسي ..ولكن النهاية محسومة وايجابية :
” دون كثير تفكير قلت:
ـ المدن لا تؤمّن الخائفين، وحدها الصحراء تفعل
ـ سأكون وطنك، سأمنحك كلّ الأمان
ـ الخطى المتعثرة لا تنتهي إلى وطن، أتركني أغادر لأيام وسأعود لتكون وطني
ـ أخاف ألا تعودي
ـ لا تخف ، أنا مبتلاة بالانتماء منذ ولدت ”
هذا وقد كُتبت حول الرواية نصوصا كثيرة من ضمنها نصّ الناقد التونسي عمر دغرير الذي أفاض في تقصّي سرد نجاة ادهان ..وبيّن مدى جديتها في طرح موضوع الطلاق وآثاره النفسية على المرأة خاصة ..وكيف أنّ هذه المرأة في استطاعتها أن تنجو من براثن العلاقة المنتهية ..وفتح علاقة تجد فيها الراحة والسعادة والسكينة ..، ومن ضمن ما ورد في نصّ عمر دغرير :
” … ورغم النزعة السوداوية الفظيعة التي سيطرت على فصول الرواية وما استعرضته الراوية من قهر وظلم واضطهاد للمرأة من قبل الرجل فإنها قدمت جانبا مشرقا وبعثت الأمل من جديد في بناء حياة جديدة..”
هذه رواية لأديبة تونسية مهتمة بشؤون المرأة والحرية والعمل جنبا إلى جنب الرجل ..أرجو أن أكون قد قدّمت فكرة عن متنها الطافح برفض النموذج المجتمع الذكوري والمنادي بكرامة الإنسان مهما كان جنسه ودينه وعرق..