منصة الصباح

نغني «بحبك يا لبنان» ونهاجر منه!

ها أنا في الطائرة من باريس إلى بيروت، وإلى جانبي شاب في وجهه طيبة، وله جسد مصارع. في المقعد الآخر بجواري كهل قال لي إنه طبيب وسرني ذلك. قلت لنفسي وأنا أربط حزام المقعد: يبدو أنني سعيدة الحظ بجارَيّ في الطائرة، وكنت واهمة!

ما كادت الطائرة تقلع من مطار باريس (رواسي ـ شارل ديغول) حتى قال لي جار المقعد الشاب: ألا تخافين من ركوب الطائرة؟ قلت له: لقد قضيت عمري وأنا أسافر، ولعلي درت حول الكرة الأرضية مرتين.. إنني أعقل وأتوكل.. أختار شركات جوية من المشهود لها بالسلامة. قال بصوت مرتجف: هل تشعرين بزحف أفعى على ساقك؟

قلت ضاحكة: أفعى؟ لسنا في غابة، بل في علبة سردين بشرية تطير..

قال: ألم تسمعي براكب حمل معه عشرات الأفاعي السامة في حقيبة وخرجت منها إلى الطائرة؟

ما أدراك أن ذلك لا يحدث لنا الآن أيضاً، مع راكب آخر؟

أضاف: ألم تسمعي بالنوارس التي أرغمت طائرة على الهبوط الاضطراري بعدما دخلت إلى المحرك؟ ألم تسمعي بالنحل الذي غطى سرب منه نافذة قمرة القيادة قبل الإقلاع.. وتأخر إقلاع الطائرة ساعة، ولعل بعضها تسرب إلى الطائرة وقد يكون ذلك قد حدث لطائرتنا.. فهل تشعرين بلسعة نحلة مثلي؟ لم أدر كيف لم أنفجر

تظاهرت بالنوم.. لكنه أيقظني قائلاً: حذار من النوم! ألم تسمعي بتلك الراكبة التي نامت في الطائرة وهبط الركاب ونسوها في الطائرة واستيقظت مذعورة وبقيت سجينة حتى اليوم التالي.. حذار من النوم..

وخطرت لي فكرة للتخلص منه دون جرح شعوره وقلت له: أنت محق فيما تقوله. يوجد مقعد واحد فارغ قرب مخرج النجاة، فهل تحب تبديل مقعدك إليه؟ وهكذا كان…

والتهمت طعامي وتظاهرت بالنوم وأنا أتساءل: كيف ستستقبلنا بيروت؟ أعرف. الطقس سيكون حاراً. المطار مزدحماً. الكهرباء في بيتي (مقطوعة) على الأرجح. ولكنني اخترت مغادرة باريس شوقاً إلى بيروت ولملء بطاريتي الروحية. وصليت كي لا يكون محرك توليد الكهرباء في المبنى معطلاً.. فليس في بيتي شمعة واحدة!

لقد مرت عقود ولا يدري المسؤولون أن من سيعيد الكهرباء إلى لبنان سيصير بطل الساعة.. وسيهتف باسمه اللبنانيون على اختلاف أحزابهم.. لذا، سرني حين وصلت إلى البيت أن أسمع تصريحاً لرئيس مجلس الوزراء سعد رفيق الحريري، يقول فيه حرفياً: أعدكم أنه بعد عام لن ينقطع التيار الكهربائي بعد اليوم عن بيروت. سجلت وعده مع تاريخ اليوم على ورقة وألصقتها على جدار غرفة نومي. هل سيسهلون تحقيق هذا الوعد الذي يحلم به كل لبناني؟

بعد وصولي بقليل، اتصلت بي هاتفياً صديقة قديمة تعلم بزيارتي لبيروت وسألتني: هل عانيت مع قطع الطرقات ريثما وصلتِ إلى بيتك؟ هل اختنقتِ برائحة إشعال الإطارات؟ هل مررت بتظاهرة احتجاجية لضيق العيش وجرثومة الفقر التي تكاد تفتك بالناس لأسباب سياسية تتعلق بالفساد.. و…

قاطعتها: أرجوك.. هذه ليلتي الأولى، فدعيني أعلم ما يدور غداً.. سأشتري الصحف كلها، فهي مرآة لأحداث الوطن وما تزال الحرية الصحافية أجمل قلعة في لبنان تضاهي بجمالها قلعة بعلبك.

ولكنها، رغم اعتراضي، قالت لي: ذهبت اليوم إلى البنك لأقوم بتحويل ما لدي من ليرة لبنانية إلى دولار، وفوجئت بأن السيدة الموظفة في البنك قالت لي إنها (ستربط) لي المبلغ بالدولار (مع الفائدة عليه) طوال عام لا أستطيع خلال ذلك التصرف به. وأضافت: كنت في حاجة إلى الدولارات لتصريف أموري اليومية المعيشية، وبالذات لأن دفتر شيكاتي من البنك ذاته ينص على الدفع بالدولار.

وهكذا استمعت إلى نشرة الأخبار، وأدركت أنها لم تسئ الفهم، وثمة أزمة مالية حقيقية في لبنان، وتذكرت أن لبنان خسر بعض النقاط من قائمة الائتمان المصرفي.

ذلك كله وهي ساعاتي الأولى في بيروت.. وقررت الهرب من الهموم كلها إلى صباح اليوم التالي. وإلى أين المفر؟ إلى غرفة مكتبتي طبعاً!

ــــــــــــ

من مقال للكاتبة . غادة السمان

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …