زايد…ناقص
جمعة بوكليب
ليس للقمر عنوانُ. من منّا لا يعرف موقع بيته؟ نحن، منذ أن فتحنا عيوننا على الدنيا، نعرفُ بدقة تفاصيل كل الطرق التي تؤدي إليه، ولا نُخطئها مطلقاً.
ليس للأغنية حدودٌ. النغمةَ تولد طليقةً بجناحين غير مرئيين. تتنقلُ بحرّية في كل الأجواء، وتقهر كل المسافات، وتتسلل إلى كل اللغات، وتعبر، لامبالية، ما قد يوضع في طريقها من مطبّات وحدود وحواجز.
ليس للحبّ بلادٌ بعلم ونشيد وحدود وجنود. أينما وُجدت قلوب بشرية، يجد الحبُّ المأوى، ويضرب جذوره عميقاً.
2
ليس للكُرهِ أصحابُ، بل شركاء. الصحبةُ والشراكةُ أمران مختلفان. الأولى محلها القبول والثقة. والثانية رفقة مؤقتة وجودها ينتفي بوجود المصلحة. ربما لذلك، نعرفُ الكُرهَ بشركائه. وهم أنواع كثيرة. والحذر وحده لا يكون كافياً لدرء ما يسرّبون إلى أفئدتنا من مشاعر غير سوية انسانياً.
وليس للغيرة طريقُ، بل مسالك ودروب ومنعطفات، ليس من السهل تجنّبها. ونحنُ، شئنا أم أبينا، قد لا نستطيع عبورها بسلام. اسألوا عن قابيل!
3
من يمنحني قلباً بلا نّدم أو حسرات؟ وفي عُهدة من سأتركُ ما تبقّى في روحي حيّاً من قصائده، قبل أن أغادر، وأوصد باب بيتي ورائي، والحق به، حتى لا أقول رحيلي؟
قبل وفاته بأيام، أرسل إليَّ بقصيدة:
” صباحُ هذا اليوم
أكلتُ أنا والطيرُ
من شجرةِ التين
التي تتبرج
زاهيةً في حديقة الدار”
منذ رحيله عن هذه الدنيا، منذ خمس سنوات، لم ترَ تلك الحديقة الاسبانية الغَنّاء في مدريد، وجه محمد الفقيه صالح، ولم تسمع نبرات صوته وهو يحييّها صباحاً. ومازال الطيرُ مداوماً على الحضور، ولا يسأل عمن كان يشاركه، في صباحات عديدة ومديدة، بهجة تذوق طعم حبّات شجرة التين، ثم فجأة اختفى في الغياب.
لو كان يعلم ذلك الطير ما ترك لنا موتُ محمد في قلوبنا من حزن وفقدٍ وعذاب.
5
” مُولَى الجمل سُوق جِمْلِكْ غادي… مُولى الجمل راهو ياكلني.” أسمع صوتها يأتيني مموسقاً منتشياً بطراوة النغم في اللحن، وفي عذوبة وطفولية الكلمات، رغم ما تنطوي عليه من دلع أنثوي و غزل. ابتسم لأني أعرف أنها قد دخلت في لحظتها الخاصة، وحلقت وحيدة في سماء مزاج رائق. أغادر غرفتي، واتجه نحوها في المطبخ، وهي تعدّ وجبة الغذاء. وأتوقف على ناصية الباب منصتاً ومبتسماً. لا تتوقف هي عن الغناء حين تراني. تواصل الغناء وتقطيع البصل، أو إعداد حَلة الرشته. تلك اللحظات، تكون أمي منجذبة إلى ذكريات تعيد إليها ما ضاع من طفولتها وصباها وشبابها.
غاب ذلك الصوت الطرابلسي الرخيم، وتقطعت أشلاء أوتار تلك الحنجرة، ولم يعد في البيت زهوٌ، منذ أن أضحت أمي مسجية على سرير طبي، في زاوية غرفة الجلوس، محاطة بالصمت والصبر ورائحة الأدوية .
هل ياترى مازالت أمي تتذكر مولى الجمل، أم لعب بذاكرتها الزمن والنسيان، كما فعل الداءُ ببدنها؟
6
” قولوا لعين الشمس ماتحماشى. لحسن حبيب القلب صابح ماشي” تصدح شادية بالكلمات مغنية، فينجذب قلبي لعذوبة صوتها. أحياناً، أتمنّى لو كنتُ شمساً كي أترفق بتلك البنية العاشقة التي لا تريد لحبيبها التعرض للحرارة. وأحياناً أخرى، أتمنى لو كنتُ أنا ذلك الحبيب!