زايد..ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
حيث تكثر الفئرانُ تتواجد، بالضرورة، القطط. هذه معادلة وضعتها الطبيعة، ولايمكن تغييرها بتدخل بشري إلا بتغيير طرفها الأول، أي بالقضاء على الفئران بالمبيدات الكيماوية. لذلك، وقبل مرحلة تصدير النفط، كانت أحياء وشوارع وأزقة المدينة القديمة مزدحمة بالسكان، من أجناس عديدة، وتكتظ بالفئران و…بالقطط.
الأعداد الهائلة للقطط، وما كانت تسببه من متاعب، لربّات البيوت، فرض الحاجة للتخلص منها، وبالذات للقطط المتهمة بالسرقة والعدوانية. وكان على الرجال القيام بمهمة مطاردة تلك القطط، والامساك بها، والتخلص منها نهائياً، بوضع القط المتهم – الجاني في كيس مصنوع من الخيش، وأخذه إلى خارج حدود المدينة القديمة، والتخلص منه، والعودة بالكيس فارغاً.
كنت، وأنا صغير، أتساءل عن الأسباب التي تدعو إلى وضع القطط في أكياس. وأتضح لي أن السبب يعود إلى حرمان القطط من التعرف على الطريق، وبالتالي قطع طريق العودة أمامها. الغريب أن القطط المطرودة، في أغلب الحالات، تعود إلى نفس المكان، وتبدأ في ممارسة ما تعودت عليه في السابق وأكثر. وحين يفيض كيل النسوة، مرّة ثانية، يقوم الرجال بامساك القط العائد مجدداً، ووضعه في كيس خيش، بعد أن يضعوا فيه أثقالا حجرية، ويغلقون الكيس ثم يلقون به وبمحتوياته في البحر. نهاية مؤلمة وحزينة. لكن للضرورات أحكام، وللفقر قوانينه الصارمة.
حين أُكتشفَ النفط، وبدأت ناقلات العالم ترسو في موانينا، لنقله إلى أوروبا، بدأت الخزينة العامة للدولة تنتفخ من عوائد بيعه، وبدأت الأمور تتغير، بدأ الناس في ترك بيوتهم بالمدينة القديمة والانتقال للعيش في مساكن جديدة، في مناطق خارج أسوار المدينة القديمة، تخلو من الفئران والجرذان، ولا تحوس في شـــــــــــــــوارعها قطط. واكتسب الناس عادات جديدة، بعد أن ” لبسوا الكِتّان ونسوا ما كان.”
علاقة الانسان بمواجع وآلام ماضيه وعدم قدرته على التخلص منها حتى بعد معاناة حملها على كاهله وفي حنايا قلبه لسنوات، وتأثيراتها على نفسيته، وسلوكه عموماً، جعلتني أفكر في الطريقة القديمة للتخلص من القطط. فقد وصلت إلى قناعة بأن هموم الماضي وأحزان مواجعه مثل القطط لا يمكن التخلص منها بتجميعها، ووضعها في أكياس ورميها بعيداً، لأنها حتماً ستعود إلى حيث كانت، وتمارس ما كانت تفعله وأكثر. والأسوأ أنها لا يمكن التخلص منها باغراقها في مياه بحر عميقة. أضف إلى ذلك، أن محاولة التعامل معها طبياً، بالتردد على الاخصائيين النفسيين، قد يساعد كثيراً في تجنّب الكثير من تداعياتها السلبية، لكنه لن ينجح في اجتثاتها نهائياً. بمعنى أن الطب النفسي يجعلنا نتفهمها، ونحاول عقلنتها، ووضعها في سياق زمكاني بظروفه المختلفة. وكأننا بذلك نحاول استئناس حيوان برّي. وهذا تحديداً ما تعلمته من تجربتي الشخصية، في تعاملي مع آلام تجربة سنوات السجن، ومحاولة التخلص مما تركته في أعماقي من آثار وندوب ومواجع وأحزان. إذ كنتُ كلما فتحتُ عليها الباب قليلاً، حتى من دون قصد، تتهاوى ككثيب رمل لتغرقني بآلامها، وتُربكَ ايقاع حياتي اليومي، مما يضطرنُي مرغماً لمحاولة اعادة السيطرة عليها وعلى تداعياتها، وإعادة دوزنة وضبط ايقاعي، من جديد، ليتخلص من نشازه. وفي آخر الأمر، أجدُني مضطراً للتردد على عيادات الطب النفسي، وتسليم أمري للمتخصصين، لتشخيص مواجعي، ولوصف الدواء المناسب، والعلاج الكفيل بغلق أبواب الآلم والمواجع، وتأهيلي نفسياً للتعامل مع الواقع الحياتي اليومي من دون أن أكون مثقلا بقيود وحمولة تلك السنوات الأليمة، وبأوجاعها المُرّة.
ما أحوجنا، الآن، إلى عيادات الطب النفسي، لمحاولة تخفيف آلام ومواجع سنوات الجمر التي عشناها خلال العقود الخمسة الأخيرة.