منصة الصباح
عبدالسلام الغرياني

“محمد الأخضر حامينا” و”فرانز فانون”: سينما الثورة وفلسفة التحرّر

عبدالسلام الغرياني

رحل المخرج الجزائري محمد الأخضر حامينا اليوم 23 مايو 2025، تاركًا خلفه إرثًا سينمائيًا حوّل الثورة الجزائرية إلى ملحمة عالمية. غيابه تزامن مع احتفال مهرجان “كان” باليوبيل الذهبي لفوزه بالسعفة الذهبية عن فيلم “وقائع سنين الجمر” (1975)، في توقيتٍ يذكّر العالم بأن السينما سلاحٌ لحفظ الذاكرة و فن راقٍ على حد سواء. هذه الفكرة التي تقاطعَت مع رؤى المفكر المارتينيكي فرانز فانون، الذي كرّس حياته لفك شيفرات الاستعمار عبر الفلسفة وعلم النفس، فجسّد الاثنان – كلٌ بأدواته – روحًا ثورية واحدة.

شارك حامينا وفانون في الثورة الجزائرية، وإن اختلفت أدوارهما. انضم حامينا إلى صفوف الثورة في تونس عام 1959، حيث تلقى تدريبًا سينمائيًا سريعًا، بينما عمل فانون طبيبًا نفسيًا في مستشفى بليدة الجزائرية، حيث شخّص الآثار المدمرة للاستعمار على الإنسان. حوّل حامينا صوره السينمائيةإلى سلاحٍ يوثق المعاناة اليومية، كما في مشهد “أحمد” في “وقائع سنين الجمر”، الذي يهرب من جحيم الحقول الاستعمارية حاملًا دعاء شيخ الضريح، بينما كتب فانون في “معذبو الأرض”: “الاستعمار نظامٌ يولد العنف، والعنف الثوري هو اللغة الوحيدة التي يفهمها”.

لم يكتفِ أيٌ منهما بسرد الوقائع، بل غاصا في الأعماق الإنسانية للصراع. صور حامينا في فيلمه كيف حوّل الاستعمار حياة الجزائريين إلى جحيم: مياهٌ مسممة، أطفالٌ يموتون بالوباء، ومجازر كتلك التي حدثت في سطيف 1945. هذه المشاهد هي صدى لتحليل فانون عن “تجريد المستعمَر من إنسانيته”. كما كشف الاثنان عن التناقضات الداخلية للمجتمع الجزائري؛ فبينما صور حامينا انقسامات قبلية حول موارد الماء في فيلمه، حلل فانون كيف يُستخدم الاستعمار لخلق صراعات هوياتية، لكنهما اتفقا على أن النضال المشترك قادر على تحويل هذه التناقضات إلى وحدة.

قدم كلاهمارؤية معقدة للعنف. في “وقائع سنين الجمر”، تظهر المقاومة المسلحة كرد فعل طبيعي على مجزرة سطيف، حيث يصرخ أحد الشخصيات: “الاستعمار دخل بالسلاح ولا بد أن يخرج بالسلاح”، وهي الفكرة نفسها التي أكدها فانون حين كتب: “العنف الثوري مطهرٌ للاستعمار”. لكنهما لم يقدما أبطالًا خارقين؛ فبطل حامينا هو “مجذوب” تنتهي حياته منسيًا، بينما رأى فانون أن التحرر الحقيقي يبدأ بتغيير الذات، لا إسقاط المستعمر فحسب.

واجه الاثنان تحدياتٍ في مرحلة ما بعد الاستقلال. انتقدت النخب الجزائرية فيلم حامينا لعدم توافقه مع الرواية الرسمية، ما أدى إلى تهميشه، بينما حذّر فانون – الذي توفي قبل استقلال الجزائر بعام – من تحول النخب الثورية إلى “برجوازية سوداء” مستبدة. تجلى هذا الصدام في فيلم “الصور الأخيرة” (1986)، حيث صور حامينا هدم الأضرحة التي مثلت ذاكرة شعبية، في إشارة إلى سياسات الرئيس هواري بومدين، وكأنه يُعيد إنتاج تحذيرات فانون من استبداد ما بعد التحرير.

على الرغم من رحيلهما، ظل تأثير حامينا وفانون حاضرًا. ففي نوفمبر 2023، أعيد عرض نسخة مرممة من “وقائع سنين الجمر” في مهرجان بلجيكي، بينما تُدرّس كتب فانون في جامعات العالم كمرجعية لفهم الاستعمار. جمع بينهما إيمانٌ بأن الفن والفكر ليسا ترفًا، بل أداتان لخلق وعي جديد. رحل حامينا في يومٍ يُختصر فيه تاريخه، يوم كان فيه العالم يُكرّم فيلمًا حوّل ثورة شعب إلى قصة إنسانية، تمامًا كما حوّل فانون الثورة إلى فلسفةٍ غيّرت مفاهيم التحرر.

اليوم، رحل حامينا المُحتفى به رمزًا لسينما المقاومة، يُذكّرنا حواره الخفي مع فانون بأن الثورة لم تنتهِ بجلاء المستعمر، بل هي مسارٌ مستمرٌ لمواجهة النسيان وإعادة كتابة التاريخ.

شاهد أيضاً

د. مجدي الشارف الشبعاني

الخيارات القانونية المتاحة أمام الدولة الليبية في ملف احتجاز هانيبال القذافي بلبنان

منذ أكثر من تسع سنوات، لا يزال المواطن الليبي هانيبال معمر القذافي محتجزًا في لبنان، …