دفق
بقلم /سعاد الوحيدي
سيكون من حظ الجيل الذي سيولد غدا، مع مطلع هذا العام المطٰل على عجل، أن لا يشرب من بئر الأخطاء التي فُرضت على البشرية طيلة قرون. وهي كثيرة ومريعة…على أن أغربها تلك المتعلقة بآليات معرفتنا بحقائق الأشياء ذاتها. فقد كان يجب الانتظار حتى القرن الواحد والعشرين، لنرى العلوم تخوض في «طبيعة/ وعدد حواس الانسان». وذلك بعد أن تُركَ َالمجال طويلاً لسيطرة رؤية عتيقة لأرسطو، قصرت الحواس على خمسة (السمع، والبصر، واللمس، والشم، والتذوق)، وفق ما فصلٓه في كتاب النفس.
حيث يمكن وصف ما يجري اليوم، بالنقلة النوعية في تفسير طبيعة حواس الإنسان: «كنظام مستند لمجموعة الخلايا الحسية، المُستجيبة لأنواع محددة من الظواهر المادية، مُتطابقة مع مناطق بذاتها داخل المخ. والتي تستقبل تلك المؤثرات، وتفسِّرها لصالح إدراك معين». الأمر الذي يجعل من تحديد الحواس بخمسة، تفسيراً إعتباطياً لعملية فسيولوجية بالغة التعقيد، ومسؤولة عن كامل عملية الإدراك. ورغم ورود مفاهيم أبعد من الأرسطية، للعلم اللدوني لدى الصوفية، أو لما يوصف بالحاسة السادسة، (أو قدرة التكهن بالأحداث)، إلا ان ما يميز النظريات الحديثة (لعلوم الفسيولوجيا، والاعصاب، والنفس الإدراكي، وفلسفة الإدراك)، هو تفصيلها الفسيولوجي لطبيعة تدخل عدد كبير من الحواس في عملية وعينا بالوجود.
البروفسور الفرنسي فرانسوا لوكري؛ صاحب أطروحة الحواس المنسية، يتحدث عن أربعة ضرورية يضيفها للخمسة المعروفة:
1 – حاسة الوعي بتموضع الأعضاء، أو بأمكنة أعضائنا/ وهو المصطلح الذي سبق أن طرحه عام 1906 عالم الفسيولوجيا الانجليزي تشارلز شيرينجتون. (والتي يصفها آخرون بالإحساس العضلي، او الحركي، أو حاسة «إستقبال الحس العميق»).
وهي تستند إلى مستقبلات حسية بالعضلات تُعرف «بالمغازل» العضلية، وظيفتها تزويد المخ بتفاصيل طول العضلة، ومدى قدرتها على التمدد. يشرح لوكري: إنه «لفتح الباب نحتاج لفتح اليد بطريقة معينة، لإلزام قوة معينة». على أن هذا الكشف عن معلومات التحفيز نادراً ما يكون واعيا، وربما لهذا السبب تم تجاهل هذه الحاسة لفترة طويلة.
2 – حاسة التوازن، وهي ذات أهمية لبرمجة علاقة الجسم بالمكان/ والحركة. (أياً كانت المتغيرات الحركية، ذات العلاقة الثابتة/ أو المتغيرة مع الجاذبية). فلو تم الدفع بشخص معصوب العينين ببطء للأمام، سيكون بإمكانه الشعور بالتغير الذي يطرأ على وضع جسمه، وعلاقته بالجاذبية. وهي تستند «للنظام الدهليزي» بالأذن، الضابط للتوازن أثناء الحركة. وكذلك الشعور بالحركة، والتسارع في الفراغ. كما تعتمد العين على هذه الحاسة لمحو تأثير حركتنا على المستقبلات الواردة. هكذا لا تؤثر حركة الرأس يميناً ويساراً خلال القراءة، على رؤية السطور، ولا على الحفاظ على التركيز أثناء القراءة.
3 -الحاسة الترمومترية (أو الشعور بالحرارة والبرودة). والتي لا يحتاج تدخلها أن يكون الوعي منصباً على موضوع الحرارة. ولكن أيضاً عندما تأتي المؤثرات الحرارية من حيث لا يدري الشخص. كأن يسقط على رأسه قضيب ساخن، او ُيلقي على ظهره بمكعب من الثلج. حيث سيكون لدى الجسد عندها القدرة، وفق هذه الحاسة، على معرفة موضوع الحرارة، وموضوع البرودة، وان لم تبصر العين ذلك. وبالتالي القدرة على التعامل معها بما يضمن السلامة.
4 -حاسة الشعور بالألم، والتي تسمح بتحديد مؤشرات الخطر الذي قد يداهم الجسد. فإن الألم الشديد الذي يصاحب لمس وعاء ساخن، هو الذي يسمح بإبعاد اليد، وتجنبها الاحتراق. حيث تعمل المنظومة الحسية المنتشرة على مساحة الجلد، دور الحارس الذي يبعث للمخ إشارات الخطر، وتدفعه للتحرك لتجنب ذلك. فالألم لا يمثل مشكلة، بل هو بالأحرى صفارة أنذار بشأنها. وهو الدور الذي يعطي لهذه الحاسة أهمية كبرى.
غير هذه الحواس التسعة، ثمة حواس أخرى صنفها العديد من العلماء، منها ما يتعذرعلى الإنسان إدراكها على نحو واعٍ، كالمؤشرات الواردة للمخ بشأن مستوى ضغط الدم، ومستوى الحموضة في السائل النخاعي، …
وما إلى ذلك. غير أننا لن نتوسع هنا، ونختم بالتذكير بأنه، ومهما تعددت حواس الإنسان، فإنه لن يستطيع رؤية إلا أقل من 1 ٪ من الطيف الكهرومغناطيسي، ولن يسمع إلا أقل من 1 ٪ من الطيف الصوتي. وإن ما يفوق99 ٪ من جسده ليس إلا فراغاً .!!