تعديل الذات في كتابة موازية
هل يشبه الكاتب ما يكتبه ؟
استطلاع /فتحية الجديدي
قد يكتب الكاتب ما يخالف حقيقته في الحياة، وتتباين تشطير هذه الذات بين كتابة وأخرى.. فأين يكون هذا الكاتب ؟
وكيف نقبض على هذه الذات التي تكاد أن تكون ملتبسة فيما نقرأ ؟ وكأن في هذا الهروب ـــــ إن جاز القول ـــــ العودة إلى الذات بإعادة رسم ذات معدّلة في الحقيقة . لا يمكن للتجربة الا أن تكون لسان الكاتب بما تتخذه من اختلاف التناول، والناحية الجمالية وموهبة الخيال هي أدوات الكاتب تذهب بهما عميقا في تجذير فعل الكتاب في لاوعي الكاتب هي ميزان لا مرئي قد تفتح على وعي الكاتب نفسه، روافد جديدة وعوالم مكشوفة لها سحر الكتابة في إعادة تدوير الذات نحو أعلى تجلياتها في الجزء الثاني من هذا الاستطلاع مجموعة أخرى من الكتّاب نستطلع آراءها .
الكاتب /جمعة بوكليب
لا يحضرني اسم القائل: «السؤال الخطأ يقابل بالرد الخطأ»والسؤال يفترض أن هناك كاتباً واحداً لا غير، والكُتّاب، كما نعرف، أنواع: «روائيون، وقاصون، وشعراء، ونقاد، وكتاب أعمدة، وزوايا والقائمة تطول جداً.
وعلى افتراض أن السؤال يقصد الكاتب الروائي. فهل يشبه روائي غزير الإنتاج مثل نجيب محفوظ ما يكتب؟ وإبراهيم الكوني، وديستوفسكي وديكنز؟ وماذا عن كُتّاب روايات الخيال العلمي؟
كاتب روايات الخيال العلمي، على سبيل المثال لا الحصر، لابد، في رأيي، أن تكون اهتماماته في ذلك المجال، أما إذا كنّا نقصد بالسؤال الكاتب الصحفي فذلك شيء آخر، ولا علاقة تربط بين ما يكتب وذاته. فهو مراقب يلاحظ ويرصد ما يحدث حوله من أحداث، على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، ويحاول لفت انتباه القراء إليها.
السؤال الخطأ من المؤكد لن يحصل على إجابة صحيحة، لكن من المحتمل جداً أن يثير الارتباك والحيرة، وهذا، على الأقل، ما حدث معي شخصياً في هذه الحالة، فأنا أكتب المقالة الصحفية، والقصة القصيرة، والشعر، والرواية، ومن حين لآخر أتعرض لعرض كتب، أو مسرحية .. فهل ما أكتبه يشبهني؟ وفي أية ناحية؟ ربما الشعر لأنه إبداع ذاتي، عميق الصلة بالذات المبدعة، قد يكون الأقرب إلى ما يقصده السؤال، فنحن نعرف من يكون عنترة بن شداد من خلال ما تركه له من قصائد.
كما نعرف المعري والمتنبي ومحمود درويش.
الشاعر والكاتب سالم العوكلي
الكاتب توصيف طيفه واسع جدًا، وتختلف الإجابة عن هذا السؤال ما إذا كان الكاتب روائيًا أو شاعرًا أو ناقدًا أو كاتب مقالة (أدبية أو فكرية أو صحفية) .. إلخ . لكن أكثر ضروب الكتابة حرصًا على تقديم صاحبها كما هو، هي أدب السيرة الذاتية، وحتى في هذه الحالة لا نجد أحيانا أن كتابة بعض السير تشبه أصحابها، وقلة من كتبوا سيرة تشبههم تمامًا وعادة ما تكون مثل هذه الكتابة الصادقة مستفزة للقراء بما فيها من جرأة.
والإبداع عادة يكون نتاج تجربة حياة ومن المفترض أن يكون الشعر خصوصًا مرآة لصاحبه فيما يتعلق بكل أحاسيسه و لحظات قوته وضعفه، ميزاته وعيوبه، وهذا ما سعت له الحداثة الشعرية التي انتصرت للذات على حساب المثال، فأغراض الشعر التقليدي كانت تقدم ذات الشاعر العليا أو المتخيلة بينما القصيدة التي تتوخى الجدة والحداثة كلما تفجر الشكل الشعري تقترح مضمونًا يعكس تجربة الشاعر وروحه وتقديمها عبر تفاصيل حياة يومية من المفترض أن تقدم ما يشبه الشاعر (إنسانًا) فعلًا.
أما فيما يخص الكاتب (المفكر أو كاتب المقالة) ففي هذه الحالة تستجيب الكتابة لتجربة القراءة والدخول في جدل مع رؤى وأفكار أخرى، وهي كتابة يتوخى فيها الموضوعية وانحسار ضغوط الذات أو كل ما هو شخصي من أجل الانخراط في فضاء معرفي وتأملي يسهم في بلورته تيار شامل من الرؤى المتفاعلة، وفي هذه الحالة يوضع المفكر في محك ما إذا كان يتمتع في شخصيته بالقيم التي يدعو إليها (وهذا ما يطرح جدلًا واسعًا حيال المصداقية) فدعوة الكاتب إلى التسامح أو احترام الرأي الآخر أو حرية المرأة أو غيرها من القيم، من المفترض أن يقابلها سلوك يحسسنا أن هذه الكتابة تشبه كاتبها، وغالبًا ما نلمس عند بعض الكُتاب ما نسميه فصامًا، حيث يصادر آراء آخرين أو لا يتسامح مع وجهات نظرهم وهو يكتب عن التسامح أو أهمية الحوار.
وانفصال ذات الكاتب عن نظرياته في القيم يربك عادة قراءه بقدر ما يجعل الكاتب ضحية لهذا الفصام الذي يربك بدوره اتساق رؤاه، أما قراء الروايات فعادة ما يبحثون عن الشخصية التي تشبه المؤلف في الرواية أو ما إذا كان في هذه الرواية سيرة ذاتية، وعادة ما ينكر الروائيون ذلك ويعتبرون أن شخصياتهم خيالية.
الأمر معقد ولابد من تحديد ما المقصود بالكاتب في هذا السؤال، لأن طبيعة الجنس الكتابي تحدد ما إذا كان من المفترض أن تشبه الكتابة منتجها أو ليس بالضرورة .
الأستاذ ناصر الدعيسي
الكتابة محاولة جادة لكشف الرؤى والأفكار والمساحات التي يتعايش معها الكاتب والصحافي والرواي والمبدع هي إرهاصات بعيدة تلغى ضيق الأفق.
والتنطع لا بل تخلق التجرد الشفاف ، وتمعن في تفتيت الاحتقان، كتابة تمرد على واقع شاذ ، وتجلى نحو آفاق لا حدود لها ، معاناة مع الذي يجرى في حياتنا اليومية، تأهيل كي نفكر لماذا هي الكتابة جزء منا، وعمق آخر في حياتنا، كي نصبح على مقاربة مع كل هذا فإن العقل المتوهج سوف يبدأ في صياغة معايير الكتابة، فهل هي رد فعل عن أعماقنا أم تخليق لواقع معاش ، وتجربة لم تستكمل بعد نضوجها ، أو تعبير مجازى متنمر.�الكاتب أحيانًا كثيرة تصبح كتاباته إسقاطات عن تجربته وحياته وتبرز هذه في الأدب. الروايات السردية التي يحكى فيها الكاتب عن تجربته الإبداعية. وهناك كتابات تشكل تشابه وتماثل للكاتب، فالراوي المغربي محمد شكرى فى روايته « الخبز الحافي» تولستوي في روايته « الشيخ والبحر « وهناك كاتب لا يملك القدرات على تشكيل تجربته وتظل حبيسة قلمه. وهى في الأنثربولوجيا عنصر الدهشة التي تماثل حقيقة وداخل المبدع ويقدمها للقارئ كما هي لأنه تعمق ذاتيًا كنار الحلاج في التصوف. وليس بالضرورة أن يكون الكاتب شبيه لما يكتب ، لكنه يقدم صوراً ومعانياً عن الآخرين، ويذهب أبعد حينما يفكك الشخصيات في نصه .
الكاتب والأديب سالم الهنداوي :
النصوص المميّزة تشبه كُتّابها المميّزين فقط
يحدث هذا فقط مع الكُتّاب المميِّزين، في كتاباتهم الصحافية ورواياتهم وقصصهم وسردياتهم، ولا تظهر هذه النتيجة النقدية إلّا بعد تجربة طويلة مع الكتابة، فيتعرّف المتلقي، القارئ والناقد، على إمكانيّات هذا الكاتب أو ذاك، من حيث مخزونه اللغوي وفكره وطريقة تناوله للموضوعات وسرده لها.. هنا فقط يصبح النص شبيه صاحبه، حتى أننا باستطاعتنا معرفة صاحب هذا النص من خلال الأسلوب قبل رؤية الاسم.
وعندما تتحقّق هذه الميزة للكاتب، يكون النص الشبيه بكاتبه والكاتب الشبيه بنصّه.. وهذه الالتفاتة نقدية بالأساس، وبالضرورة تعني اللغة بوصفها متنا وليست وسيلة.. أما في النقد الموضوعي وما يتّصل بالقيمة الفكرية للنصّ وارتباطه بقناعات وإيمانات صاحبه في الدنيا، أو موقفه الأيديولوجي من السياسة والدين مثلاً، فهذا يتعدّى النظرة النقدية في خصوصها، فليس كُل قارئ بالضرورة على معرفة شخصية بالكاتب كي يقيّم علاقة ثنائية غير قائمة بالأساس سوى في ذهن الرقيب الأمني والديني، فلا حدود لكتابة لا تشبه أصحابها وإن عرفنا عن قرب أشخاصاً تماثلوا مع كتاباتهم وصارت شخصياتهم متناغمة معها لدرجة بعيدة.. ولدينا في ليبيا كُتّاب يشبهون كتاباتهم تماماً، بل وكأنّ كتاباتهم هي ملامحهم الحقيقية في الحياة، من هؤلاء مثلاً، يوسف القويري صانع المقال بفكره وجسده وأوجاعه، وكذلك رضوان بوشويشة صانع القصّة واللوحة التشكيلية من ذاته الموجوعة في الحياة، كما التجربة الشعرية مع مكابدات علي الرقيعي وعلي الفزّاني ومحمد الشلطامي وجيلاني طريبشان ومفتاح العمّاري، شعراء كِبار يشبهون قصائدهم ولم يغادروها.. وهذا الاستنتاج ضمنياً لأننا نعرفهم ونقرأ لهم ما يشبههم تحديداً.. والأمثلة كثيرة على تحديد تيمة النصّ وتماهيه مع شخصية وحياة صاحبه، ومن المتميّزين أيضاً في التجربة، الصادق النيهوم وخليفة الفاخري، فعلى الرغم من نشأتهما الواحدة في حي واحد وقراءتهما المشتركة لعناوين كُتب بذاتها وترجماتٍ بعينها، إلّا أنهما اختلفا في أسلوب الكتابة وإن بدا للكثيرين خلاف ذلك.
في العالم العربي هناك أيضاً متميِّزون ويشبهون كتاباتهم دون سواها، فلا نجيب محفوظ يشبه إحسان عبدالقدوس، ولا محمد الماغوط يشبه زكريا تامر، ولا غادة السمّان تشبه أحلام مستغانمي، ولا محمود درويش يشبه سميح القاسم، ولا يحيى يخلف يشبه رشاد أبو شاور.. ولا إبراهيم الكوني يشبه عبدالرحمن منيف وإن كتبا معاً أدب الصحراء.. ونلاحظ هنا أن هؤلاء الكُتّاب والشعراء هُم أبناء جيل واحد في العُمر مع اختلاف التجربة.
.. في الأدب العالمي يمكننا قراءة النصوص فقط لمعرفة أصحابها الذين يشبهونها في المعاناة والخلق الإبداعي، وهو التميُّز الخاص في اللغة والسرد كما بين روايات الروسي تولستوي والكولمبي ماركيز، أو بين الأمريكي ميللر والنيجيري وول سوينكا، مع اختلاف التجربتين بين مكانين متباعدين، وإن جمعتهما رؤية إنسانية واحدة.
الفنان التشكيلي علي العباني
حقيقة لابد وأن يكون الكاتب أو الفنان يشبه إلى حد بعيد منجزة، وهنا أيضًا الكتابة تعني كل أنماط الكتابة .. أليس كذلك ؟ مثلاً القصة والرواية والشعر، السرد بصفة عامة، نيرودا بالتأكيد نصه إنعكاس لذاته ..لوركا ماركيز نجيب محفوظ ومورافيا حتى إن جل السرد الروائي والقصة القصيرة يكون بالفعل إضافة للنقد وللدارسين لما يمكن أن يضاف لسيرة الكاتب الذاتية نقاد كثر نبشوا في النص الأدبي بحثًا عن خصوصيات الكاتب والأديب، ليس فقط في مجال الكتابة بل أيضًا في مجال الفن بصفة عامة بيكاسو مثلا ودالي وهما رمزان مهمان في تاريخ التشكيل الحديث جل أعمالهما التشكيلية مرتبطة وإلى حد بعيد بحياتهما الشخصية بالتأكيد أقرب النصوص إلى الذات هي النصوص الشعرية.
ويبقى الإبداع الأكثر تجريدًا والأكثر قربًا وتأثير في الروح وهو الموسيقى بيتهوفن مثلًا جل مؤلفاته ووفق أغلب القراءات النقدية هي مرتبطة إلى حد بعيد ببعض مراحل سيرته معروف طبعا أن بتهوفن أصيب بعدم السماع (أطرش) السمفونية التاسعة تحديدا ألفها وهو لايسمع واعتبرت تعبيرا فائقا لروحه الفريدة، دتلي تتماثل تماما أعماله مع نزعة النرجسية ليست النرجسية المتشائمة ولا العاطفية نرجسية متعالية متأففة لكنها مبدعة وبشعرية فائقة وحتى لعلها بروح إنسانية تتجاوز مستويات كل ماهو تقليدي وسائد وفعلا دالي أعماله السوريالية تشبهه.
الكاتب والناقد /يونس سعبان الفنادي
هل يشبه الكاتب ما يكتبه؟، هذا سؤال متشابك تتوالد منه أسئلة فرعية عديدة، فمثلاً هل المقصود بما يكتبه عن نفسه وسيرته الشخصية، أم ما يكتبه عند تناوله لكتابات غيره بفكر وأسلوب لا يشبهه ولا يمت إليه بصلة، أم أن المقصود غير ذلك كلياً؟!
ولكن في كل الأحوال، فإن العلاقة بين الكاتب ونصه الإبداعي متشابكة ومتداخلة جداً عند الكثيرين، أولهم أولئك الذين يؤمنون بارتباط النصِّ بعقيدة وفكر ورأي وسلوكيات مبدعه، وبالتالي فإنه عند نشره نصاً لا يحمل بعض جيناته ولا أي تشابه مع سلوكه أو معتقده الفكري، فإنهم ينسبونه إلى المشمولين بمقولة (الذين يقولون ما لا يفعلون)، ويصنفون نصه بالمخاتل الذي لا يعبر عن الذات الصادقة.
وفي جانب آخر مختلف، يرى كثيرون أيضاً أن تطابق فكرة النص ومفاهيم الحياة وسلوكيات الكاتب هو توحد بين رسالة الذات الكاتبة الخلاقة مع ما تكتنزه من فكر وقيم وأخلاق، وهذا بلا شك أساسي في الكتابة النقدية خاصةً، أما في الكتابات الابداعية المعتمدة على التخيل فإنه ليس من الضروري أن يتشابه النص مع ما يمارسه الكاتب من حياة ومعيشة واقعية في سلوكياته ومعتقداته لأن الإبداع يمنحه رخصة بذلك.
ولكن هل يقبل القراء والناس كاتباً يكتب في النقد بأسلوبه الموضوعي كشخصيته الحقيقية المعروفة، بينما في الكتابات الإبداعية غير النقدية كالأجناس الأدبية الشعرية والسردية ينتحل شخصيات أخرى لا تتقاطع معه فكراً وأسلوباً؟
الأستاذ مفتاح قناو
هل يشبه الكاتب ما يكتبه ؟
كيف يمكن أن تكون إجابة أي كاتب عند طرح مثل هذا السؤال ؟
في اعتقادي أنه لا يمكن.